أبو العلاء المعري
أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي، المعروف بالشاعر أبو العلاء المعري، وُلِد في معرّة النعمان، وينتمي إلى قبيلة تنوخ. وقد كانت عائلته مشهورة في مجالات الشعر والقضاء، حيث كان جده أول قاضٍ في معرّة النعمان.
تعرّض في صغره لمرض الجدري الذي أفقده بصره. تلقى تعليمه في علوم الدين على يد شيوخ وعلماء عائلته، وبدأ في دراسة النحو والشعر منذ صغره. ومن أبرز الأحداث في حياة أبو العلاء كانت زيارته لبغداد، حيث جمع الطلاب حوله ليحاضرهم في مجالات الفلسفة والشعر. خلال تواجده في بغداد، تواصل مع العلماء وزار العديد من المكتبات. بعد عودته إلى مسقط رأسه، انكفىء إلى منزله وتفرغ للتأليف حتى وفاته.
قصيدة تعب كلها الحياة
تُعدّ قصيدة “تعب كلها الحياة” لأبي العلاء المعري من روائع الشعر العربي. تعكس هذه القصيدة جوهر الوجود وأبعاده الظاهرة والخفية، معبّرة عن فكر المعري حول الموت والحياة. تصنف القصيدة ضمن المراثي، حيث كتبها المعري في رثاء الفقيه الحنفي أبي حمزة.
في هذه القصيدة، يطرح أبو العلاء رؤيته للحياة كميدان خالٍ من الألوان والمعاني العميقة، مستخدماً أسلوباً صادقاً في التعبير. يشارك الشاعر أحاسيسه وحكمته بجرأة وعمق. وفيما يلي بعض الأبيات من القصيدة:
غيرُ مجدٍ في ملّتي واعتقادي
نوح باكٍ ولا ترنم شاد
وشبيهٌ صوت النعيّ إذا قِيـ
س بصوت البشير في كلّ ناد
أبَكَت تلكم الحمامة أم غـ
نّت على فِرْعِ غُصنٍها الميّاد
صاحِ هذي قُبورُنا تملأ الرُحبَ
فأين القبور من عهد عاد
خفّف الوَطْءَ ما أظنّ أَدِيْمَ الـ
أرض إلا من هذه الأجساد
وقبيحٌ بنا وإِنْ قَدُم العهدُ
هوانُ الآباء والأجداد
سِرْ إن اسطعت في الهواءٍ رُوَيداً
لا اختيالاً على رُفات العباد
رُب لحدٍ قد صار لحداً مراراً
ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
ودفينٍ على بقايا دفين
في طويل الأزمان والآباد
فاسأل الفَرْقَدين عمّن أحسّا
من قبيلٍ وآنَسا من بلاد
كم أقاما على زوال نهار
وأنارا لمُدْلِج في سواد
تعبٌ كُلّها الحياةُ فما أعـ
جبُ إلا من راغبٍ في ازدياد
إنّ حزناً في ساعة الموت
أضعاف سرورٍ في ساعة الميلاد
خُلق الناس للبقاء فضلّت
أمّة يحسبونهم للنّفاد
إنّما يُنقَلون من دار أعما
لٍ إلى دار شِقوة أو رَشَاد
ضَجعة الموتِ رَقْدَةٌ يستريح الـ
جسمُ فيها والعيْشُ مثلُ السُّهاد
أبَناتِ الهديلِ أسْعِدنَ أو عُدنَ
قليلَ العزاء بالإسعاد
إيه لله درّكن فأنتن الّـ
لواتي تُحسِنّ حِفظَ الوِدَاد
بيد أنّي لا أرتضي ما فعلت
نّ وأطواقكنّ في الأجياد
فتسلّبن واستعرن جميعاً
من قميص الدجى ثياب حداد
ثمّ غرّدن في المآتم واندب
ن بشجون مع الغواني الخِرادِ
قصد الدهر من أبي حمزة الأّوّا
ب مولى حِجىً وخدن اقتصاد
وفقيهاً أفكاره شدة للنُّعـ
مانِ ما لم يشدْهُ شعر زياد
فالعراقيُّ بعده للحجاز
يّ قليل الخلاف سهل القياد
وخطيباً لو قام بين وحوش
علّم الضاريات بِرّ النِّقاد
راوياً للحديث لم يحوج المعـ
روف من صدقه إلى الأسناد
أنفق العمر ناسكاً يطلب العلـ
م بكشفٍ عن أصله وانتقاد
مستقي الكف من قليبِ زجاجٍ
بغروب اليراع ماء مداد
ذا بنانٍ لا تلمس الذهب الأح
مر زهداً في العسجد المستفاد
ودّعا أيها الحفيّان ذاك الـ
شخص إنّ الوداع أيسر زاد
واغسلاه بالدمع إن كان طهراً
وادفناه بين الحشى والفؤاد
واحبواه الأكفان من ورق المصـ
حف كبراً عن أنفس الأبراد
واتلوَا النعش بالقراءة والتسـ
بيح لا بالنحيب والعداد
أسفٌ غيرُ نافع واجتهادٌ
لا يؤدّي إلى غَناء اجتهاد
طالما أخرج الحزين جوى الحز
ن إلى غير لائقٍ بالسداد
مثلَ ما فاتت الصلاة سليما
ن فأنحى على رقاب الجياد
وهو من سُخرت له الإنْسُ والجِـ
ن بما صحّ من شهادة صاد
خاف غدر الأنام فاستودع الرِّيـ
ح سليلاً تغذوه درّ العهاد
وتوخّى له النجاة وقد أيـ
قن أنّ الحِمام بالمِرصاد
فرمته به على جانب الكر
سيّ أم اللُّهَيم أخت النآد
كيف أصبحت في مَحلّك بعدِي
يا جديراً منّي بحُسْنِ افتِقاد
قد أقرّ الطبيب عنك بعجزٍ
وتقضّى تَرددُ العوّاد
وانتهى اليأسُ منكَ واستشعر الوجـ
دُ بأن لامعادَ حتّى المعادِ
هجد الساهرون حولك للتم
ريض ويحٌ لأعيُن الهجّاد
من أسرة مضوَا غير مغرو
رين من عيشة بذات ضماد
لا يغيّركم الصعيد وكونوا
فيه مثل السيوف في الأغماد
فعزيزٌ علي خلطُ اللياليّ
رِمِّ أقدامكم بِرِمّ الهوادي
كنتَ خلّ الصبا فلما أراد الـ
بين وافقتَ رأيه في المراد
ورأيت الوفاء للصاحب الأ
وّل من شيمة الكِرام الجَواد
وخلعت الشباب غضّاً فيا لي
تك أبليته مع الأنداد
فاذهبا خير ذاهبين حقيقي
نِ بسقيا روائحٍ وغواد
ومَراثٍ لو أنّهن دموعٌ
لمَحَون السطور في الإنشاد
زحلٌ أشرف الكواكب داراً
من لقاء الرّدَى على مِيعادِ
ولِنار المريخ من حَدَثَان الدهـ
ر مطفٍ وإن علَت في اتقاد
والثريا رهينةٌ بافتراق الـ
شمل حتى تُعدُّ في الأفراد
فليكن للمحسّن الأجلُّ الممـ
دودُ رغماً لآنف الحساد
وليطبْ عن أخيه نفساً وأبنا
ء أخيه جرائحِ الأكباد
وإذا البحر غاض عني ولم أر
وَ فلا رِيّ بادّخار الثِّماد
كلّ بيت للهدم ما تبتني الور
قاء والسيد الرفيع العماد
والفتى ظاعنٌ ويكفيه ظلّ الـ
سدر ضربَ الأطناب والأوتاد
بان أمر الإله واختلف النا
سُ فداعٍ إلى ضلال وهاد
واللبيبُ اللبيبُ من ليس يغتـ
رُّ بكونٍ مصيره للفساد
ختاماً، أبو العلاء المعري يجسد حكمة فريدة تستشرف القلوب والعقول، فكل بيت من قصيدته يمثل سرداً منفصلاً، وكل بيت يحمل فلسفة مستقلة. لقد تجاوز الشاعر حدود الفلاسفة وتخطى أساليب الشعراء، ليقدم لنا رؤاه المتعمقة في كل ميادين الحياة، مما جعله شخصية ملهمة تُعَدّ من أبرز الفلاسفة على مر العصور.
شعر المعري
لفهم سمات شعر المعري، من الضروري النظر في الظروف المحيطة به. فقد أُطلق عليه لقب “فيلسوف الشعراء”، وهناك نقاد لم يعترفوا بنبوغه كشاعر. كان لوجوده في عصر مفعم بالمعرفة وتفشي الفكر الفلسفي، بالإضافة إلى إصابته بالعمى وفقدانه لوالديه، أثر واضح في تشكيل شخصيته الأدبية والفكرية.
تتجلى السمات المتنوعة لمؤلفات الشاعر في مختلف مراحل مسيرته، ولكن تجمع جميع أعماله على نقل فكرة المعري عن الحياة والوجود، فضلاً عن تشاؤمه، وعقليته العميقة، ونقده لبعض العادات والتقاليد. كما تميز شعره بأساليب لغوية وبليغة، وألفاظ وقوافي فريدة.