طيف يطلق عليه الحنين
يظهر في الزاوية وجه والدتي
لا أستطيع رؤيته لأنه
سكن داخلي منذ سنوات
فالعين إذا غفلت قليلاً لا ترى
لكن من سكن الجوانح لا يغيب
حتى وإن توارى ككل الغائبين
يبرز أمامي وجه والدتي كلما
اشتدت رياح الحزن ورعش الجبين
الناس تغيب في العيون وتختفي
وتتحول إلى حزن في الضلوع
ورجفة في القلب تخفق في كل حين
ولكنها أمي
يمر العمر واحتفظ بها وتحتفظ بي
وتظهر كظلال خافتة
تجوب القلب الحزين
منذ أن تفرقنا، والكون من حولي يضيق
وكل شيء بعدها أصبح عمراً ضئيلاً
صارت مع مرور الأيام طيفاً
لا يغيب ولا يظهر
طيفاً نطلق عليه الحنين
يبدو في الزاوية وجه والدتي
عندما ينتصف النهار
وتستقر الشمس
وتغيب الظلال
مما يؤرقني كثيراً
كيف تصبح الحياة بعد فوضى الأحداث
زوالاً في زوال
في أي زمن أو وقت ستنسحب الرؤى
لتكسو الوجوه تلالاً من الصمت أو الرمال
في أي زمن أو وقت سنختم القصة
عاجزين عن السؤال
واستسلم الجسد الضعيف، فتكسر
فيه النصال على النصال
هدأ السحاب ونامت الأطياف
مبعثرة على قمم الجبال
سكن البريق وغاب
سحر الضوء وانطفأ الجمال
حتى الحنان أصبح ذكريات
وغدا الشوق سراً لا يقال
في الزاوية يظهر وجه والدتي
ربما غابت، ولكنني أراها
كلما جاء المساء لتداعب الأطفال
إلى والدتي
أحن إلى خبز والدتي
وقهوة والدتي
ولمسات والدتي
وتكبر في طفولتي
يوماً بعد آخر
وأعشق حياتي لأني
إذا مت،
أخجل من دموع والدتي
خذيني، إذا عدت يوماً
وشاحاً لتغطي عينيك
واغمري عظامي بعشب
مقدس من قدميك
ووثقي ارتباطي
بخصلة شعر
أو بخيط يرفرف في ذيل ثوبك
عساي أكون إلهاً
إلهاً أكون
إذا ما لمست أعماق قلبك
ضعي، إذا عدت
وقوداً لتنورك
وحبل الغسيل على سطح منزلك
لأني فقدت القدرة على النهوض
بدون صلاة نهارك
هرمت، فردّي نجوم الطفولة
حتى أشارك
صغار العصافير
درب العودة
لعشّ انتظارك
خمس رسائل إلى والدتي
صباح الخير، يا عزيزتي
صباح الخير، أمي الحبيبة
مضى عامان على ابني
الذي أبحر
في رحلته الخرافية
وخبأ في حقائبه
صباح وطنه الأخضر
وأنجمها، وأنهارها، وكل شقيقها الأحمر
وخبأ في ملابسه
نباتات من النعناع والزعتر
وليلة دمشقية
أنا وحدي
دخان سجائري يضجر
ومكاني يضجر
وأحزاني كالعصافير
تبحث عن بيدر
تعرفت على نساء أوروبا
وعرفت عواطف الإسمنت والخشب
عرفت حضارة التعب
وطفت الهند، وطفت السند، وطفت العالم الأصفر
ولم أجد
امراة تمشط شعري الأشقر
وتحمل في حقيبتها
إلي عدداً من عرائس السكر
وتكسوني إذا كنت عارياً
وتساعدني إذا تعثرت
أيا أمي..
أنا الولد الذي أبحر
ولا تزال في خاطري
تعيش عروسة السكر
فكيف.. فكيف يا أمي
غدوت أباً
ولم أكبر؟
صباح الخير من مدريد
ما أخبارها الفلّة؟
بها أوصيك، يا أمّاه
تلك الطفلة
فقد كانت أحب حبيبة لأبي
كان يدللها كطفلته
ويدعوها إلى فنجان قهوته
ويسقيها
ويطعمها
ويشملها برحمته
ومات والدي
ولا تزال تعيش بحلم عودته
وتبحث عنه في أرجاء غرفته
وتسأل عن عباءته
وتسأل عن جرائده
وتسأل عندما يأتي الصيف
عن فيروز عينيه
لتنثر فوق كفيه
دنانير من الذهب
ألف سلام
إلى بيت سقانا الحب والرحمة
إلى أزهارك البيضاء.. فرحة ساحة النجمة
إلى سريري
إلى كتبي
إلى أطفال حارتنا
وحيطان ملأناها
بفوضى من كتابتنا
إلى قطط كسولات
تنام على مشارفنا
وليلة معرشة
على نافذة جارتنا
مضى عامان يا أمي
ووجه دمشق،
عصفور خربش على جوانحنا
يعض على ستائرنا
وينقرنا
برفق من أصابعنا
مضى عامان يا أمي
وليل دمشق
وفل دمشق
ودور دمشق
تسكن في خواطرنا
مآذنها تضيء على مراكبنا
كأن مآذن الأمويين
قد زُرعت داخلنا
كأن مشاتل التفاح
تعبق في ضمائرنا
كأن الضوء والأحجار
جاءت كلها معنا
أتى أيلول يا أماه
وأتى الحزن يحمل لي هداياه
ويترك عند نافذتي
مدامعه وشكواه
أتى أيلول أين دمشق؟
أين والدي وعيناه
وأين حرير نظرته؟
وأين عبير قهوته؟
سقى الرحمن مثواه
وأين رحاب منزلنا الكبير
وأين نِعماه؟
وأين مدارج الشمس
تضحك في زواياه؟
وأين طفولتي فيه؟
أجرجر ذيل قطةه
وآكل من عريشته
وأقطف من بنفشاته
دمشق، دمشق
يا شعراً
على حدقات أعيننا كتبناه
ويا طفلاً جميلاً
من ضفائره صلبناه
جثونا عند ركبته
وذوّبنا في محبته
إلى أن قتلناه في محبتنا
الحياة مستمرة، فأكرم والديك بها
الحياة مستمرة، فأكرم والديك بها،
والأم أولى بالإكرام والإحسان.
وحسبها الحمل والإرضاع،
أمران بالفضل نالا كل إنسان.