أشعار تأبينية في رثاء المتنبي

ألا لا أرى الأحداث مدحاً ولا ذما

أشتاق إلى الكأس التي احتسيتها

وأرغب في مثواها التراب وما ضمته

بكيت عليها خوفاً في حياتها

وذاق كلانا ثكل صديقه قديماً

وصلتني كتبي بعد يأس وترحل

فماتت سروراً بي ومُتّ بها غماً

حَرَامٌ على قلبي السرورُ فإنني

أحسب الذي ماتت به بعدها سُمّا

إني لأعلم واللبيب خبير

ما كنت أظن قبل دفنك في الثرى

أن الكواكب في التراب تغور

ما كنت أرجو قبل نعشك أن أرى

رضوى على أيدي الرجال تسير

خرجوا به ولكل باك خلفه

صعقات موسى يوم دُك الطور

والشمس في كبد السماء مريضةٌ

والأرض واجفةٌ تكاد تمور

وحفيف أجنحة الملائكة حوله

وعيون أهل اللاذقية صور

حتى أتوا جدثاً كأن ضريحه

في قلب كل موحد محفور

يا أخت خير أخ يا بنت خير أب

يا أخت خير أخٍ يا بنت خير أبٍ

كنايةً بهما عن أشرف النسب

أجل قدرك أن تُسمى مؤبّنةً

ومن يصفك فقد سماك للعرب

لا يملك الطرب المحزون منطقه

ودمعه وهما في قبضة الطرب

غدرت يا موت كم أفنيت من عدد

بمن أصبت وكم أسكّت من لجب

وكم صحبت أخاها في منازلةٍ

وكم سألت فلم يبخل ولم تخب

طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ

فزعت فيه بآمالي إلى الكذب

حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي

تعثرت به في الأفواه ألسنها

والبرد في الطرق والأقلام في الكتب

كأن فعلة لم تملأ مواكبها

ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب

ولم ترد حياة بعد توليةٍ

ولم تغث داعياً بالويل والحرب

أرى العراق طويل الليل مذ نُعيت

فكيف ليل فتى الفتيان في حلب؟

يظن أن فؤادي غير ملتهبٍ

وأن دمع جفوني غير منسكبِ

بلى وحُرمة من كانت مراعيةً

لحُرمة المجد والقصاد والأدب

ومن مضت غير موروثٍ خلائقها

وإن مضت يدها موروثة النسب

وهمها في العلا والمجد ناشئةً

وهم أترابها في اللهو واللعب

يعلمن حين تحيا حسن مَبسِمها

وليس يعلم إلا الله بالشَنبِ

سررة في قلوب الطيب مفرقها

وحسرة في قلوب البيض واليلب

إذا رأى ورآها رأس لابسه

رأى المقانِعَ أعلى منه في الرُتَب

وإن تكن خُلقت أنثى لقد خُلقت

كريمةً غير أنثى العقل والحسب

وإن تكن تغلب الغلباء عنصرها

فإن في الخمر معنى ليس في العنَب

فليت طالعتي الشمسين غائبةٌ

وليته غائبة الشمسين لم تغب

وليته عين التي أبت النهار بها

فداءً لعين التي زالت ولم تؤب

فما تقلد بالياقوت مشبهها

ولا تقلد بالهندية القضب

ولا ذكرت جميلاً من صنائعها

إلا بكيت ولا وُدٌ بلا سبب

قد كان كل حجابٍ دون رؤيتها

فما قنعت لها يا أرض بالحجب

ولا رأيت عيون الإنس تُدركها

فهل حسدت عليها أعين الشهب؟

وهل سمعت سلاماً لي ألَمّ بها

فقد أطلت وما سلمت من كثب

وكيف يبلغ موتانا التي دفنت

وقد يقصر عن أحيائنا الغيب؟

يا أحسن الصبر زُر أولى القلوب بها

وقل لصاحبها يا أنفع السحب

وأكرم الناس لا مُستثنيًا أحداً

من الكرام سوى آبائك النجب

قد كان قاسَمك الشخصين دهرهما

وعاش درهمهما المفديُ بالذهب

وعاد في طلب المترّك تاركه

إنا لنغفل والأيام في الطلب

ما كان أقصر وقتاً كان بينهما

كأنه الوقت بين الورد والقرب

جزاك ربك بالأحزان مغفرةً

فحزن كل أخي حزن أخو الغضب

وأنتم نفر تسخو نفوسكمُ

بما يهبن ولا يسخون بالسلب

حللتم من ملوك الناس كلهمُ

محلّ سمر القنا من سائر القصَب

فلا تنالك الليالي إن أيديها

إذا ضربن كسرن النبع بالغُرب

ولا يعن عدواً أنت قاهره

فإنهن يصدن الصقر بالخَرَب

وإن سررن بمحبوب فجعن به

وقد أتيناك في الحالين بالعجب

وربما احتسب الإنسان غايتها

وفاجأته بأمرٍ غير محتسب

وما قضى أحدٌ منها لبانته

ولا انتهى أربٌ إلا إلى أرب

تخالفت الناس حتى لا اتفاق لهم

إلا على شجب والخلف في الشجب

فقيل تخلص نفس المرء سالمةً

وقيل تشرُك جسم المرء في العطب

ومن تفكر في الدنيا ومهجةِه

أقامه الفكر بين العجز والتعب

عيد بأي حال عدت يا عيد

عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ

بما مضى أم بأمرٍ فيكَ تجديدُ

أما الأحبّة فالبيداء دونهمُ

فليت دونك بيداً دونها بيدُ

لولا العلى لم تجُب بي ما أجوب بهَا

وجناء حرفٌ ولا جرداء قيدودُ

وكان أطيب من سيفي معانقةً

أشباه رونقها الغيد الأماليدُ

لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي

شيئاً تُتيّمُه عَينٌ ولا جيدُ

يا ساقييّ أخمُرٌ في كؤوسكُما

أم في كؤوسكمَا همٌ وتسهيدُ؟

أصخرهٌ أنا، ما لي لا تحركني

هذه المدام وهذه الأغاريدُ

إذا أردت كميط اللون صافياً

وجدته وحبيب النفس مفقودُ

ماذا لقيتُ من الدنيا وأعجبهُ

أني بما أنا شاكٍ منه محسودُ

أمسيت أروح مُثرٍ خازناً ويداً

أنا الغني وأموالي المواعيدُ

إني نزلت بكذابين، ضيفهمُ

عن القرى وعن الترحال محدودُ

جود الرجال من الأيدي وجودهمُ

من اللسان، فلا كانوا ولا الجودُ

ما يقبض الموت نفساً من نفوسهمُ

إلا وفي يده من نتنها عودُ

أكلما اغتال عبد السوء سيدهُ

أو خانَهُ فله في مصر تمهيدُ

صار الخصي إمام الآبقين بها

فالحُر مستعبد والعَبد معبودُ

نامت نواثر مصر عن ثعالبها

فقد بشمن وما تفنى العنقيدُ

العَبْد ليسَ لحُرٍّ صالحٍ بأخٍ

لو أنه في ثياب الحر مولودُ

لا تشتر العبد إلا والعصا معهُ

إن العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ

ما كنت أحسبني أحيَا إلى زمنٍ

يسىء بي فيه عبدٌ وهو محمودُ

ولا توهّمتُ أن الناس قد فُقدوا

وأن مثل أبي البيضاء موجودُ

وأن ذا الأسود المثقوب مشفرهُ

تطيعُه ذي العضاريط الرعاديد

جوعان يأكل من زادي ويُمسكني

لكي يقالَ عظيم القدر مقصودُ

ويلمِّهَا خُطّةً ويلُمِّ قابلهَا

لمثلها خُلِق المهريّة القودُ

وعندها لذ طعم الموت شاربهُ

إن المنيّة عند الذل قنديدُ

من علّم الأسود المخصيّ مكرمةً

أقومه البيض أم آباؤه الصيدُ

أم أذنه في يد النخّاس داميةً

أم قدره وهو بالفَلَسين مردودُ

أولى اللئام كُويفيرٌ بمَعذرةٍ

في كل لؤم، وبعض العذر تفنيدُ

وذاك أن الفحول البيضاء عاجزةٌ

عن الجميل فكيف الخصية السود؟