قصيدة أغاني الأسير
يقول الكاتب محمود درويش:
ملوحة، يا مناديل حبّ، إليك السلام.
تقولين أكثر مما يقوله ديل الحمام
وأكثر من دمعةٍ خلف جفن.. ينام
على حلم هاربٍ! مفتّحة، يا شبابيك حبيّ
تمرّ المدينة أمامك، عرس طغاة
ومرثاة أم حزينة
وخلف الستائر، أقمار نابعة من عفونة
وزنزانتي.. موصدة!
ملوّثة، يا كؤوس الطفولة:
بطعم الكهولة
شربنا، شربنا
على غفلة من شفاه الظمأ
وقلنا: نخاف على شفتينا
نخاف الندى.. والصدأ!
وجلستنا، كالزمان، بخيلة
وبيني وبينك نهر الدم
معلّقة، يا عيون الحبيبة
على حبل نورٍ يتكسّر من مقلتين
ألا تعلمين أنني
أسير اثنين؟
جناحاي: أنت وحريتي
تنامان خلف الضفاف الغريبة
أحبكما، هكذا، توأمين!
قصيدة إن الأرامل والأيتام قد يئسوا
يقول الفرزدق:
إن الأرامل والأيتام قد يئسوا
وطالبي العرف، إذ لاقاهم الخبر
أن ابن ليلى بأرض النيل أدركه
وهم سراع إلى معروفهم القدر
لما انتهوا عند باب كان نائله
به كثيراً ومن معروفه فجر
قالوا دفنا ابن ليلى فاستهل لهم
من الدموع على أيامها درر
من أعين علمت أن لا حجاز لهم
ولا طعام إذا ما هبت القَرَر
ظلوا على قبره يستغفرون له
وقد يقولون تارات لنا العبر
يقبلون تراباً فوق أعظمِه
كما يقبل في المحجوجة الحجر
للَّه أرضٌ أجنّته ضريحتها
وكيف يُدفن في الملحودة القمر؟
قصيدة أسألك الرحيلا
يقول نزار قباني:
لنفترق قليلاً.. لخير هذا الحب يا حبيبي
وخيرنا.. لنفترق قليلاً
لأنني أريد أن تزيد في محبتي
أريد أن تكرهني قليلاً
بحق ما لدينا من ذكرى غالية كانت على كِلَينا
بحق حب رائع.. ما زال منقوشاً على فمي
ما زال محفوراً على يدينا
بحق ما كتبته إليّ من رسائل
ووجهك المزروع مثل وردة في داخلي
وحبك الباقي على شعري، على أناملي
بحق ذكرياتنا
وحزننا الجميل وابتسامنا
وحبنا الذي غدا أكبر من كلامنا
أكبر من شفاهنا..
بحق أحلى قصة للحب في حياتنا
أسألك الرحيل
لننفصل، ونحن عاشقان..
لنفترق برغم كل الحب والحنان
فمن خلال الدمع، يا حبيبي
أريد أن تراني
ومن خلال النار والدخان
أريد أن تراني
لنحترق.. لنبكِ يا حبيبي
فقد نسينا
نعمة البكاء من زمان
لننفصل.. كي لا يصير حبنا اعتياداً
وشوقنا رماداً..
وتذبل الأزهار في الأواني
كن مطمئن النفس، يا صغيري
فلم يزل حبك ملء العين والضمير
ولم أزل مأخوذةً بحبك الكبير
ولم أزل أحلم أن تكون لي..يا فارسي وانت أمير
لكني.. أخاف من عاطفتي
أخاف من شعوري
أخاف أن نسأم من أشواقنا
أخاف من وصالنا.. أخاف من عناقنا
فباسم حب رائع
أزهر كالربيع في أعماقنا..
أضاء، مثل الشمس، في أحداقنا
وباسم أحلى قصة للحب في زماننا
أسألك الرحيل.. حتى يظل حبنا جميلاً
حتى يكون عمره طويلاً.. أسألك الرحيل..
قصيدة لا تعذليه فإن العذل يولعه
يقول ابن زريق البغدادي:
لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلتِ حقاً ولكن ليس يسمعه
جاوزتِ في لومه حداً أضرّ به
من حيث قدرتِ أن اللوم ينفعه
فاستعملي الرِّفق في تأنيبه بدلاً
من عذله فهو مضنى القلب موجعه
قد كان مضطلعاً بالخطب يحملُهُ
فضيّقت بخطوب المهر أضلعه
يكفيه من لوعتِ التشتت أن له
من النّوى كلّ يوم ما يروعه
ما آبَ من سفر إلا وأزعجه
رأي إلى سفر بالعزم يزمعه
كأنما هو في حل ومترحل
موكّلٌ بفضاء الله يذرعه
إن الزمان أراه في الرحيل غنىً
ولو إلى السد أضحى وهو يُزمعه
تأبى المطامع إلا أن تجشمه
للرزق كداً وكم ممن يودعه
وما مجاهدة الإنسان توصله
رزقاً ولا دعةُ الإنسان تقطعه
قد وزّع الله بين الخلق رزقهم
لم يخلق الله من خلق يضيعه
لكنهم كُلِّفوا حرصاً فلست ترى
مسترزقاً وسوى الغايات تقنعه
والحرص في الرزاق والأرزاق قد قُسمت
بغِيُ ألا إن بغي المرء يصرعه
والمهر يعطي الفتى من حيث يمنعه
إرثاً ويمنعه من حيث يطمعه
استودع الله في بغداد لي قمراً
بكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعتُهُ وبودي لو يودّعني
صفو الحياة وأني لا أودعه
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحىً
وأدمعي مستهلّات وأدمعه
لا أكذب الله، ثوب الصبر منخرقٌ
عني بفُرقته لكن أرقعه
إني أوسّع عذري في جنايته
بالبين عنه وجنائي لا توسعُه
رزقت ملكاً فلم أحسن سياسته
وكل من لا يسوس الملك يخلعه
ومن غدا لابساً ثوب النعيم بلا
شكر عليه فإن الله ينزعه
اعتضتُ من وجه خلي بعد فرقته
كأسا أجرّع منها ما أجرّعُه
كم قائلٍ لي: ذقتُ البين قلتُ له
الذنب والله ذنبي لست أدفعه
ألا أقمتَ فكان الرشد أجمعه
لو أنني يوم بان الرشد أتبعُهُ
إني لأقطع أيامي وأنفِنُها
بحسرةٍ منه في قلبي تقطعُه
بمن إذا هجعتِ النوام بتُّ له
بلوعةٍ منه ليلى لست أهجَعُه
لا يطمئن لجسمي مضجعُ وكذا
لا يطمئن له مذ بنت مضجعه
ما كنتُ أظن أن المهر يفجعني
به ولا أنض بي الأيام تفجعُه
حتى جرى البين فيما بيننا بيدٍ
عسراء تمنعني حظّي وتمنعه
قد كنتُ من ريب مهري جازعاً فرقاً
فلم أوقّع الذي كنتُ أجزعُه
بالله يا منزل العيش الذي درست
آثاره وعفت مذ بنتُ أربعَة
هل الزمان معيدٌ فيك لذتنا
أم الليالي التي أمتته ترجعُه
في ذمة الله من أصبحت منزلَهُ
وجاد غيثٌ على مغناك يُمرِعُه
من عنده لي عهدٌ لا يضيعه كما
له عهد صداقٍ لا أضيعه
ومن يُصدّع قلبي ذكره وإذا
جرى على قلبه ذكري يُصدّعُه
لأصبرنّ لمهر لا يُمتعني
به ولا بي في حال يُمتعُه
علماً بأنّ اصطباري معقّب فرجاً
فأضيق الأمر إن فكّرت أوسعه
عسى الليالي التي أضنت بفُرقتهنا
جسمي ستجمعني يوماً وتجمعُه
وإن تغل أحداً منا منيتَهُ
فما الذي بقضاء الله يصنعه
قصيدة لأني غريب
يقول بدر شاكر السياب:
لأنّي غريب
لأنّ العراق الحبيب بعيد
وأني هنا في اشتياق
إليه، إليها أنادي: عراق
فيرجع لي من ندائي نحيب
تفجر عنه الصدى
أحسّ بأني عبرت المدى
إلى عالم من ردى لا يجيبني
ندائي
وإمّا هززت الغصون
فما يتساقط غير الردى
حجار
حجار وما من ثمار
وحتى العيون
حجار وحتى الهواء الرطيب
حجار يندى به بعض الدمع
حجار ندائي وصخر فمي
ورجلاي ريح تجوب القفار
قصيدة البكاء بين يدي زرقاء اليمامة
يقول أمل دنقل:
أيتها العرافة المقدّسة
جئتُ إليك، مثخناً بالطعنات والدماء
أزحف في معاطف القتلى، وفوق الجثث المتكدّسة
منكسر السيف، مغبّر الجبين والأعضاء
أسأل يا زرقاء.. عن فمك الياقوتي، عن نبوءة العذراء
عن ساعدي المقطوع.. وهو ما يزال ممسكاً بالراية المنكّسة
عن صور الأطفال في الخوذات، ملقاةً على الصحراء
عن جاري الذي يهمّ بارتشاف الماء، فيثقب الرصاصُ رأسه، في لحظة الملامسة
عن الفم المحشوُّ بالرمال والدماء
أسأل يا زرقاء.. عن وقفتي العزلاء بين السيف والجدار
عن صرخة المرأة بين السبي والفرار
كيف حملتُ العار ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهار؟
ودون أن يسقط لحمي من غبار التربة المدنسة
تكلّمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي.. بالله.. باللعنة.. بالشيطان
لا تغمضي عينيك، فالجرذان
تلعق من دمي حساءها ولا أردُّها
تكلمي.. لشد ما أنا مهان
لا الليل يُخفي عورتي، كلا ولا الجدران
ولا اختبائي في الصحيفة التي أشدُّها
ولا احتمائي في سحائب الدخان
تقفز حولي طفلة واسعةَ العينين، عذبةٌ المشاكسة
(كان يقصُّ عنك يا صغيرتي، ونحن في الخناد
قفنفتح الأزرار في ستراتنا، ونسند البنادق
وحين مات عطشاً في الصحراء المشمسة، رطّب باسمك الشفاه اليابسة
وارتخت العينان!)
فأين أخفي وجهي المتّهم المدان؟
والضحكةَ الطروب: ضحكته، والوجه، والغمازتان؟
أيتها النبية المقدسة، لا تسكتي
فقد سكّنت سنةً فسنةً
لكي أنال فضلة الأمان
قيل لي “اخرس” فخرست، وعميت، وائتممت بالخصيان
ظللتُ في عبيد (عبس) أحرس القطعان
أجتزُّ صوفها، أردُّ نوقها
أنام في حظائر النسيان
طعامي: الكسرة، والماء، وبعض الثمرات اليابسة
وها أنا في ساعة الطعان
ساعةً أن تخاذل الكماة والرماة والفرسان
دُعيت للميدان
أنا الذي ما ذقتُ لحم الضأن
أنا الذي لا حول لي أو شأن
أنا الذي أقصيت عن مجالس الفتيان
أدعى إلى الموت ولم أدع إلى المجالسة
تكلمي أيتها النبية المقدسة
تكلمي.. تكلمي
فها أنا على التراب سائلٌ دم
وهو ظمئُ، يطلب المزيد
أسائل الصمت الذي يخنقني
“ما للجمال مشيها وئيدا؟!”
أجندلاً يحملن أم حديدا؟
فمن تُرى يصدُقني؟
أسائل الركع والسجود
أسائل القيود
“ما للجمال مشيها وئيدا؟!”
“ما للجمال مشيها وئيدا؟!”
أيتها العرافة المقدسة.. ماذا تفيد الكلمات البائسة؟
قلت لهم ما قلت عن قوافل الغبار، فاتهموا عينيك، يا زرقاء، بالبوار
قلت لهم ما قلت عن مسيرة الأشجار، فاستضحكوا من وهمك الثرثار
وحين فوجئوا بحد السيف: قايضوا بنا
والتمسوا النجاة والفرار
ونحن جرحى القلب، جرحى الروح والفم
لم يبق إلا الموت.. والحطام.. والدمار
وصبية مشرّدون يعبرون آخر الأنهار
ونسوة يسقن في سلاسل الأسر، وفي ثياب العار
مطأطئات الرأس.. لا يملكن إلا الصرخات الناعسة
ها أنت يا زرقاء، وحيدة.. عمياء
وما تزال أغنيات الحب والأضواء
والعربات الفارهات.. والأزياء
فأين أخفي وجهي المشوّه
كي لا أعكّر الصفاء.. الأبله.. المموّها
في أعين الرجال والنساء؟!
وأنت يا زرقاء.. وحيدة.. عمياء
وحيدة.. عمياء