قصائد حزينة ومؤثرة
إليكم مجموعة من القصائد الحزينة والمؤلمة التي تعبر عن أعمق المشاعر الإنسانية:
قصيدة “هذا أنا” لنزار قباني
لقد أصبحت مدمنًا على أحزاني،
وصرت أخشى أن لا أشعر بالألم،
وطُعنت عدة مراتٍ،
حتّى صار يؤلمني أن لا أتعرض للجراح،
لقد لعنتُ بكل اللغات،
وأصبح يؤرقني أن لا أُلعن،
وقد شُنقتُ على جدار أشعاري،
ووصيتي كانت… أن لا أُدفن.
تتشابه جميع البلدان،
فلا أرى نفسي هناك،
ولا أجد ذاتي هنا.
تتشابه جميع النساء،
فجسم مريم في ظلام، كالمنى،
ما كان شعرِي لعبةً عبثية،
أو نزهة قمرية،
إني أكتب الشعر، سيدتي،
لأكتشف من أنا.
أيها السادة:
إني أسافر في قطار مدمعي،
هل يركب الشعراء إلا في قطارات الشجن؟
أفكر في اختراع الماء،
فإن الشعر يجعل كل حلم ممكنًا،
وأفكر في صنع الناي،
حتى يأكل الفقراء (الميجانا) بعدي،
إن هم صادروا وطني الطفولة من يدي.
لقد جعلت من القصيدة موطناً لي.
يا سادتي:
إن السماء واسعة جدًا،
لكن الصيارفة الذين تقاسموا ميراثنا،
والذين اقتسموا أوطاننا،
والذين نزعوا أجسادنا،
لم يتركوا لنا شبرًا.
يا سادتي:
لقد ناضلت ضد عصر مقيت،
وافتحت جرح قبيلتي المُتعفنة،
لستُ مباليًا بكل الباعة المتجولين،
وكل كتّاب البلاط،
وكل من جعلوا الكتابة مهنة،
مثل الزنا.
أيها السادة:
أسفًا إذا أقلقتكم،
أنا لست مضطرًا للإعلان عن توبتي،
هذا أنا.
هذا أنا.
هذا أنا.
قصيدة “أقول لهم وقد جد الفراق” لمعروف الرصافي
أقول لهم وقد جد الفراق،
رويدكم فقد ضاق الخناق،
رحلتم كالبدر وما رحتم،
مشتاقًا لا يفصح له اشتياق،
فقلبي فوق رؤوسكم طائر،
ودمعي تحت أرجلكم مراق.
أقال الله من قود لحاظاً،
دماء العاشقين بها تُراق.
أبقت أعيناً للغيد السود،
ولو نُسيت بها البيض الرقاق.
متى يصحو الفؤاد وقد أديرت،
عليه من الهوى كأس دهاق؟
وليس الناس إلا من تصابي،
لهوج الرامسات بها اختراق.
كان لم تُصبني في كعاب،
ولم يُضرب بساحتها رواق.
فَعُجتُ على الطلول بها مُكملاً،
أسير عَضَّ ساعده الوثاق.
حديد بارد في اللوم قلبي،
فليس له إذا طرق انطرق.
قصيدة “لأنّي غريب” لبدر شاكر السياب
لأنني غريب،
لأن العراق الحبيب بعيد،
وأنا هنا في شوقٍ إليه،
إليه أنادي: عراق،
فيرجع لي من ندائي نحيب،
يُفجر عنه الصدى،
أحس أنني عبرت المدى،
إلى عالمٍ من ردى لا يجيب ندائي.
وإذا هززت الغصون،
ما يتساقط غير الردى.
حجارة،
حجارة وما من ثمار،
وحتى العيون،
حجارة وحتى الهواء الرطيب،
حجارة يندّيها بعض الدم،
حجارة ندائي وصخر فمي،
ورجلاي ريح تجوب القفار.
قصيدة “الغربة” لأحمد مطر
أحرقــي في غربتي سفــني،
ألأنني أبعدتُ عن أهلي ووطني،
وجَرعتُ كأس الذل والمحن،
وتناولت قلبي الشجون،
فذُبتُ من شجني.
ألأنني أبحرتُ رغم الريح،
أبحثُ في ديار السحر عن زماني،
وأردُّ نار القهر عن زهري،
وعن فني،
عطّلت أحلامي،
وأحرقت اللقاء بموقِد المِنَن.
ما ساءني أن أقطَع الفلواة،
محمولًا على كفني،
مستوحشًا في حومة الإفاق والشجن.
ما ساءني لثم الردى،
ويسوؤني أن أشتري شهْد الحياة،
بعلقم التسليم للوثن.
ومن البلية أن أجود بما أحس،
فلا يُحس بما أُجود،
وتظل تنثال الحدود على مناي،
بلا حدود.
وكأنني إذ جئتُ أقطَـعُ، عن يدي،
على يديكِ يدَ القيود،
أوسعْتُ صلصلة القيود!
ولقد خطبتُ يد الفراق،
بمهر صبري، كي أعود،
ثملاً بنشوة صباحي الآتي،
فأرخيتِ الأعِنّة: لن تعود.
فطَفَا على صدري النشيج،
وذاب في شفتَي النشيد!
أطلقتُ أشرعة الدموع،
على بحار السرّ والعلن:
أنا لن أعود.
فأحرقِي في غربتي سفُنِي،
وارمِي القلوع،
وسمري فوق اللقاء عقارب الزمن.
وخذي فؤادي،
إن رضيتِ بقلة الثمن!
لكن لي وَطناً،
تعفّر وجهُهُ بدم الرفاق،
فضاع في الدنيا،
وضيّعني
وفؤاد أمٍّ مُثقلاً بالهم والحزن،
كانت توَدّعني.
وكان الدمع يخذلُها،
فيخذلني،
ويشدني،
ويشدني.
لكن موتي في البقاء،
وما رضيت لقلبها أن يرتدي كفني.
أنا، يا حبيبة،
ريشةٌ في عاصف المحن،
أهفو إلى وطني،
وتردني عيناكِ… يا وطني،
فأحار بينكُما،
أأرحل من حمى عدنٍ إلى عدن؟
كم أشتهي، حين الرحيل،
غداة تحملني،
ريح البكور إلى هناك،
فأرتدي بدني،
أن تصبحِي وطناً لقلبي،
داخلَ الوطن.
قصيدة “قذى بعينك أم بالعين عوار” للخنساء
قذى بعينكِ أم بالعين عوّار،
أم ذرّفتْ إذ خلت من أهلهَا الدار؟
كأنّ عيني لذكراهُ إذا خطَرَتْ،
فيضٌ يسيلُ على الخدّين مدرار،
تبكي لصخرٍ هي العبرَى وقد ولهت،
ودونه من جديد التربِ استار.
تبكي خناسٌ فما تنفك مَا عمرتْ،
لها علَيْه رنينٌ وهي مِفتار،
تبكي خناسٌ على صخرٍ وحقَّ لها،
إذ رابهَا الدهر أن الدهر ضرّار.
لا بدَّ من ميتةٍ في صرفهَا عبرٌ،
والدهرُ في صرفهِ حولٌ وأطوار.
قد كان فيكم أبو عمرٍو يسودكمُ،
نِعْمَ المُعَمَّم للداعين نصّار،
صلبُ النحيزة وهّابٌ إذا منعوا،
وفي الحروبِ جريءُ الصدر مِهصَار،
يا صخرُ وَرّادَ ماءٍ قد تَناذرَهُ،
أهلُ الموارِدِ ما في وِرْدِهِ عار.
مشَى السّبَنْتى إلى هيجاءُ مُعْضِلَةٍ،
لهُ سلاحان: أنيابٌ وأظفار.
وما عَجُولٌ على بَوٍّ تُطيفُ بِهِ،
لها حنينان إعلانٌ وإسرار.
ترتعُ ما ارتعتْ، حتى إذا ادّكرَتْ،
فإنما هي إقبالٌ وإدبار.
لا تسمن الدهرَ في أرضٍ وإن رتعتْ،
فإنما هي تحنانٌ وتزجار.
يوماً بأوْجَدَ مني يومَ فارَقني،
صخرٌ وللدهر إحلاء وإمرار.
وإنّ صَخراً لَوالينا وسيّدُنا،
وإنّ صَخْراً إذا نَشْتو لنَحّار.
وإنّ صَخراً لمِقدامٌ إذا ركبوا،
وإنّ صَخْراً إذا جاعوا لعَقّار.
وإنّ صَخراً لتأتّم الهُداةُ بِهِ،
كَأنّهُ عَلَمٌ في رأسهِ نار.
جلدٌ جميلُ المحيّا كاملٌ ورعٌ،
وللحروبِ غداةَ الرّوعِ مسعار.
حَمّالُ ألويةٍ هبّاطُ أودِيَةٍ،
شَهّادُ أنْدِيَةٍ للجَيشِ جَرّار.
نَحّارُ راغِيَةٍ مِلجاءُ طاغِيَةٍ،
فَكّاكُ عانِيَةٍ لِلْعَظْمِ جَبّار.
فقلتُ لما رأيتُ الدهرَ ليس له،
معاتبٌ وحدهُ يسدي وَنيَّار.
لقدْ نعى ابنُ نهيكٍ لي أخاَ ثقةٍ،
كانت تُرجِّمُ عنهُ قبلُ أخبار.
فبتُّ ساهرةً للنجمِ أرقبهُ،
حتى أتى دونَ غَورِ النّجمِ أستار.
لم تَرَهُ جارَةٌ يَمشي بساحاتِها،
لريبةٍ حينَ يخلِي بيتهُ الجار.
ولا تراهُ وما في البيتِ يأكلهُ،
لكنَّهُ بارزٌ بالصحنِ مهمار.
ومُطْعِمُ القوم شحماً عند مَسغبهم،
وفي الجُدوبِ كريمُ الجَد ميسار.
قد كان خالصتي من كل ذي نسبٍ،
فقد أصيب فما للعيش أوطار؟
مثلَ الرُّديني لم تنفد شبيبتهُ،
كَأنّهُ تحتَ طيّ البرد أُسوَار.
جَهْمُ المُحَيّا تُضِيءُ اللّيلَ صورَتُهُ،
آباؤهُ من طِوالِ السمك أحرار.
مُوَرَّثُ المَجْدِ مَيْمُونٌ نقيبَتُهُ،
ضَخْمُ الدّسيعَةِ في العَزّاءِ مِغوَار.
فرعٌ لفرعٍ كريمٍ غيرِ مؤتشبٍ،
جلدُ المريرةِ عند الجمع فخّار.
في جوفِ لحْدٍ مُقيمٌ قد تَضَمّنَهُ،
في رمسهِ مقمطرَّاتٌ وأحجار.
طَلْقُ اليَدينِ لفعل الخَير ذو فجرٍ،
ضَخْمُ الدّسيعَةِ بالخيراتِ أمّار.
ليَبكِهِ مقْتِرٌ أفنى حريبَتَهُ،
دَهْرٌ وحالَفَهُ بؤسٌ وإقْتار.
ورفقةٌ حارَ حاديهم بمهلكةٍ،
كأنّ ظُلْمَتَها في الطِّخْيَةِ القار.
لا يمنَعُ القومَ إن سألوه خُلْعَتَهُ،
ولا يجاوزهُ بالليل مرّار.
قصيدة “كيف لا أحزن يا ترى”
كيف لا أحزن يا ترى،
قالوها كثيرًا، الكثير،
وكنت أقول لهم سأرى.
تمر الأيام وأنا على حالَي،
فيسخرون من تعلقي بماضٍ ما جرى.
كيف لا أحزن وقد منحت حياتي،
ونبضاتي ودقاتي وآهاتي ودمعاتي،
وعبراتي وقصيداتي ومعاهداتي،
لمن تخلى عنها بسرعة الممات.
كيف لا أحزن وقد تحطمت أحلامي،
وتكسّرت أقلامي وتناثرت أجرامي،
وتدفقت آلامي وتشتت أمامي،
وتكررت أسقامي وتقطعّت أنغامي.
كيف لا أحزن والشمس غابت،
والشموع ذابت والأقدار لانت،
والنهاية حانت والبداية كانت،
والطريق ضاعت والعودة استحالت،
والحياة ماتت.
كيف لا أحزن والحبيب باع،
والعم ضاع والقلب جاع،
والجسد ارتاع والنوم كيل بالصاع،
والقبر بالمزاد أصبح يُباع.
كيف لا أحزن والليل أصبح نهار،
والجار هجر الجار،
والطيور من عشه طار،
والحليم بحالي حار.
وفاتني وسبقني القطار،
واخترق قلبي ألف مسمار،
وجسدي من الحمى أصبح نار،
والمسلم بعهده أصبح من الكفار.
كيف لا أحزن والحزن يستمد حزنه مني،
والقدر يتعلم القدرة مني،
والصبر يتعلم الصبر مني،
والقلب يتعلم الحب مني،
والوفاء يتعلم الوفاء مني،
والحبيب يتعلم الحب مني،
والذكي يتعلم الذكاء مني،
والغبي يتعلم الغباء مني،
والمخدوع يتعلم الخداع مني،
والناسي يتعلم النسيان مني،
والمتذكر يتعلم التذكر مني،
والحياة تتعلم الحياة مني،
والفناء يتعلم الفناء مني.
ومني، لا، لا، لا تتعلم مني.
كيف لا أحزن والأصدقاء رحلوا،
وتخلوا وهجروا ونسوا،
وتناسوا وخدعوا وغدروا وخانوا،
وبقيت وحيدًا أقول: يا ليتهم ما كانوا.
كيف لا أحزن والحقيقة مكذوبة،
والهدية مردودة والبسمة مسلوبة،
والحقيقة محدودة والأحبة محجوبة،
والقلوب مقلوبة والأعناق مشدودة،
والشرايين مشوبة والدماء مجرودة،
والحياة مسبوبة.. إسأل.. إسأل أين اليقين؟
فلا أجد سوى الغدر الدفين،
من تلك النفس والروح والجسد والقدر،
والحب والعشق والوله والزمان اللعين.
لا تستديري، يا عين، لا تبحثي عن أحد،
فالمكان غير صالح لعيش الآدميين،
فليس هنا غير الوحوش والأشباح والأشجار،
والرمال والرياح والجماد والقوارض.
وهذا البيت المهجور الذي يسكنه ذلك النحيل،
الباكي الجائع المتعطش لكأس الحنين،
ذلك المنحني المتقوقع المضجع على ذكرياته،
وعلى أوجاعه وكلماته،
صاحب القلب الحزين.