قصيدة صباه الهوى ما أحوج الخلو أن يصبو
يقول الملك الأمجد:
ويعود ذاك البعد قرباً، وتنثني
به سَجْسَجاً عندي زعازعُه النُّكْبُ
ومن مما أذابني في الغصونِ ابنُ أيكةٍ
تميلُ به مِن طيبِ غنائه القضبُ
ينوحُ ووجهُ الصبحُ قد لاحَ مشرقاً
يقولُ لنوّامِ الدُّجى ويحكُمْ هبّوا
فلم أرَ مثلي في الغرامِ ومثلَه
خليلَيْ وفاءٍ بَزَّ صبرَيهما الحبُّ
غرامٌ إذا ما قلتُ هانَ رأيتُه
وقد بانَ أهلوهِ له مركبٌ صعبُ
وبرقٌ بدا والليلُ ملقٍ جِرانَه
يلوحُ على بعدٍ كما اختُرِطَ العَضبُ
سَهِرْتُ لجرّاهُ إلى أن تمايلتْ
إلى الغربِ مِن أقصى مشارِقها الشُّهبُ
أُنظَّمُ شعراً كالِغرِنْدِ كلامُه
شَرودٌ ولا تِيهٌ لديهِ ولا عُجبُ
فسائرُ أشعارِ الخلائقِ جملةً
لِحاءٌ وهذا الشعرُ مِن دونِها لُبُّ
يغنَّي به الساري فَيَسْتَعْبذب الهوى
ويستبعد المرمى فيحدو به الركبُ
قصيدة زار الخيال خيال عبلة في الكرى
يقول عنترة بن شداد:
زارَ الخيالُ خيالُ عَبلَةَ في الكَرى
لمتِّيم نشوانَ محلول العرى
فنهضتُ أشكُو ما لقيتُ لبعدها
فتنفَّسَتْ مِسكاً يخالطُ عَنْبَرا
فضَممتُها كيما أقبِّلَ ثغرَها
والدَّمعُ منْ جَفنيَّ قد بلَّ الثرى
وكشفتُ برقعها فأشرقَ وجهها
حتى أعادَ اللَّيلَ صُبحاً مُسفِراً
عربيةٌ يهتزُّ لين قوامها
فيخالُه العشَّاقُ رُمحاً أسمرا
محجوبةٌ بصوارمٍ وذوابل
سمرٌ ودونَ خبائها أسدُ الشرى
يا عَبلَ إنَّ هَواكِ قد جازَ المَدى
وأنا المعنى فيكِ من دون الورى
يا عَبلَ حبُّكِ في عِظامي مَعَ دَمي
لمَّا جرت روحي بجسمي قدْ جرَى
وَلقد عَلِقْتُ بذَيلِ مَنْ فَخُرتْ به
عبسٌ وسيفُ أبيهِ أفنى حميرا
يا شأْسُ جرْني منْ غرامٍ قاتلٍ
أبداً أزيدُ به غراماً مسعرا
يا ساشُ لولا أنْ سلطانَ الهوى
ماضي العزيمة ما تملكَ عنترا
قصيدة كلُّ قصيدة كلُّ حبّ
يقول أنسي الحاج:
كلُّ قصيدةٍ هي بدايةُ الشعر:كلُّ حبّ:كل حب هو بدايةُ السماء.
تَجذري فيّ، أنا الريح، اجعليني تراباً. سأعذبكِ كما تُعذب الريحُ الشجَرَ و تمتصّينني كما يمتصُّ الشجرُ التراب. وأنتِ الصغيرة، كلُّ ما تريدين يُهدى إليكِ إلى الأبد. مربوطاً إليكِ بألم الفرق بيننا، أَنتَزعُكِ من نفسكِ، وتنتزعينني، نتخاطف إلى سكرة الجوهريّ نَجدّد حتى نضيع. نتكرّر حتى نتلاشى، نغيبُ في الجنوح في الفَقْد السعيد، وَلِجُ العَدَم الورديّ خالصَين من كلّ شائبة. ليس أنتِ ما أُمسك، بل روح النشوة. وما إن توهّمتُ معرفةَ حدودي، حتى حملتني أجنحةُ التأديب إلى الضياع. لمنْ يدّعي التُخمةَ، الجوعُ، و لمن يعلن السأمَ، لدغةُ الهُيام. و لمن يصيح “لا! لا!”، ظهورٌ موجع لا يُرَدّ في صحراء اليقين المظفَّر. ظهورٌ فجأةً كدُعابة كمسيحةٍ عابثة، كدُرّاقةٍ مثلَّجة في صحراء اليقين. ظهوركِ يَحني الرأسَ بوزن البديهة المتجاهَلَة فأقول له “نعم! نعم! ”، وإلى الأمام من الشرفة الأعلى، كلّما ارتميتُ مسافة حبّ، حرقتُ مسافةً من عمر موتكَ كائناً من كنتَ!… ترتفعُ، ترتفع جذوركِ في العودة، تمضي، وصلةً إلى الشجرةِ الأولى، أيّتها الأمُّ الأولى، أيتها الحبيبةُ الأخيرة، يا حَريقَ القلب، يا ذَهَبَ السطوح، وشمسَ النوافذ، يا خيّالةَ البَرق المُبْصر وجهي، يا غزالتي وغابتي، يا غابةَ أشباح غَيرتي. يا غزالتي المتلفّتة وسط الفَرير لتقول لي: اقتربْ، فأقترب، أجتاز غابَ الوَعْر كالنظرة، تتحوّل الصحراء مفاجرَ مياه وتصبحين غزالةَ أعماري كلّها. أفرّ منكِ فتنبتين في قلبي، وتفرّين منّي، فيعيدكِ إليّ مرآتكِ المخبأة تحت عتبة ذاكرتي. يداكِ غصونُ الحرب، ويَداكِ يدا الثأر اللذيذ مني، يدا عينيكِ كطفلةٍ تَرتكبي، يداكِ ليلُ الرأس. تُسكتينني كي لا يسمعونا، ويملأُ الخوفُ عينيكِ مُدَلّهاً مختلجاً بالرعب، كطفلٍ وُلد الآن. تنسحب الكلمات عن جسدكِ كغطاءٍ ورديّ. يظهر عُريكِ في الغرفة، ظهورَ الكلمة الأوحد. بلا نهائيّة السراب في قبضة اليد. مَن يحميني غابَ النهار، ومَن يحميني ذَهَبَ الليل. ليس أيَّ شوقٍ بل شوقُ العبور، ليس أيَّ أملٍ بل أملُ الهارب إلى نعيم التلاشي. فليبتعد شَبَحُ الخطأ، ولا يقتحْمنا باكراً، فيخطف ويطفئ ويَقتل ما لا يموت، لكي يعيش بعد ذلك قتيلاً. الحبّ هو خلاصي أيّها القمر، الحبّ هو شقائي، الحبّ هو موتي أيّها القمر. لا أخرج من الظلمة إلاّ لأحتمي بعريكِ، ولا من النور إلاّ لأسكر بظلمتك. تربح عيناكِ في لعبة النهار وتربحان في لعبة الليل. تربحان تحت كلّ الأبراج وتربحان ضدّ كل الأمواج. تربحان كما يربح الدِين عندما يربح وعندما يخْسر. وآخذ معي وراءَ الجمر تذكارَ جمالكِ أبديّاً كالذاكرة المنسيّة، يحتلّ كلَّ مكان، وتستغربين كيف يكبر الجميع ولا تكبرين. ذَهَبُ عينيكِ يسري في عروقي. لم يعد يعرفني إلاَّ العميان لأنهم يرون الحبّ. ما أملكه فيكِ ليس جسدكِ، بل روحُ الإرادة الأولى، ليس جسدك بل نواةُ الجَسد الأول، ليس روحكِ، بل روحُ الحقيقة قبل أن يغمرها ضباب العالم. الشمس تشرق في جسدكِ، وأنتِ بردانة، لأن الشمس تَحرق، وكلّ ما يَحرق هو بارد من فرط القوّة. كلّ قصيدةٍ هي قَلْبُ الحبّ: كلّ حبٍّ هو قلبُ الموت يخفق بأقصى الحياة.
كلّ قصيدةٍ هي آخرُ قصيدة، كلّ حبٍّ هو آخرُ الصراخ، كلّ حبٍّ، يا خيّالةَ السقوط في الأعماق، كلّ حبٍّ هو الموت حتى آخره، وما أُمسكه فيكِ ليس جسدكِ، بل قَلْبُ الله، أعصره وأعصره ليُخدّر قليلاً صراخُ نشوتِهِ الخاطفة آلامَ مذبحتي الأبديّة.
قصيدة للحب دين وللأشواق باقينا
يقول خلفان بن مصبح:
لم يلق إلاّ ثبات العزم متقداً
وشدّة الصبر لا وهناً ولا لينا
قد يعلم الصبر أنا خير جيرته
عزماً وحزماً وأوفاهم موازينا
ويعلم الدهر لو زادت نوائبه
وفا الخليلين عن نعماه يغنينا
هما الأحبة لي إن خانني زمن
أسلتُ جرحي إن عزّ المداوينا
رمز الوفاء وأهل الصدق في ثقة
إن خانني الدهر ما زالوا موالينا
يرجون لي مالهم جهداً ولو قدروا
لأوقفوا القدر المكتوب في الحينا
إن يأسُ شعرهما قلبي فلا عجب
صدق المواساة من خير المواسينا
أحيا بقلبي آمالاً وعلّمني
أسمى الوفاء وإخلاص المصافينا
قصيدة علينا طال يا سعد المطال
يقول أبو الهدى الصيادي:
علينا طال يا سعد المطال
وازعجنا التباعد والمطال
وريم الرقمتين جفا دلالا
وقد يضني أخا الوله الدلا
وكم قال العذول لسوء ظن
بنا يا سعد قولا لا يقال
أما وجمال من نهوى وهذا
يمين قد تهز له الجبال
لنا في الحب عهد ليس يرمى
بنقض والوفاء له رجال
يمر بنا نسيم الحب ليلا
فيلفى في جوانحنا اشتعال
نهيم وركبنا يهتز وجدا
ومعنى الوجد تحمله الجمال
فترتعد الجمال له هياما
واحدجة الجنائب والرحال
إلا يا سعد دارك رب شوق
عليه سطا برمشته الغزال
وغز نبال تلك العين منه
بمهجته وتعلم ما النبال
وقد عجب العذول لما دهاني
وكم أسد به فتك الجمال
وحرمة ليلة باللطف مرت
وقد طالت واقصرها الوصال
يطوف علي من حبي خيال
فأبكي والدموع لها انحدار
كحدر السيل ترسله التلال
وأشكو لا يرق إلى غيري
ودائي في الهوى الداء العضال
فهل يا سعد تجمعنا الليالي
ويفصل بعد هذا الانفصال
عسى المولى يمن يسر لطف
ويبرز من ضمير الغيب حال
قصيدة أسطورة الوفاء
تقول الشاعرة فدوى طوقان عن الوفاء في الحب:
تسأل: أين الوفاء؟ أما من وفاء؟! وأضحك في وجهك المتجهّم. سأل مثلك: أين الوفاء؟ وماذا عن الأوفياء وأين هواك القديم، وأين النساء… مئات النساء اللّواتي حببْتُ، وكلّ امرأة تظنك ملك يديها. وتحسب حبّك وقفا عليها. تظنّ غرامك أبقى من الشمس، أرسخ من راسيات الجبال، وتؤبى تصدّق أن الوفاء يظلّ خرافة، يظلّ خيالاً ووهماً، واسماً لغير مسمّى وشيئاً محالاً. نريد من الآخرين الوفاء، نصفّدهم نحن، تربطهم بالرجاء، بحبل سراب كذوب ببرق خلوب. ونمضي لنشرب كأساً جديداً، نمضي لنطعم لوناً جديداً، لنحيا غراماً جديداً، لنعد وجهاً جديداً، نرجع نسأل: أين الوفاء؟ نريد من الآخرين البقاء على عاطفة ذوت وتلاشت، بأعماقنا واستحالت إلى صورة زائفة. أنانية يا رفيقي تعشش فينا. تسير رغباتنا في الخفاء، وتحجبها بنقاب كثيف، نسميه نحن وفاء!!
بلى يا رفيقي: قد يطلّ هناك ظلّ لبعض رفات غرام تلاشى وما يطلّ، ونجهل كيف يطلّ. فنوقد شمعة لديه، ونحضن ذكراه فترة، ونرجع من بعد نؤويه قبره، وندفنه من جديد. وما في المحاجر دمعة، ولا في الجوانح لوعه. ونمضي نلبي النداء القوي، وكلّ اتجاه، ننسى القديم ونحيا الجديد، نرجع نسأل: أين الوفاء؟ أما من وفاء؟!