قصيدة: علمتني الحياة
كتب الشاعر محمد مصطفى حمام:
لقد علمتني الحياة أن أستقبل
كل تجاربها برضا وقبول.
فرأيت أن الرضا يخفف الأثقال
ويستر الأوجاع بثوب من السكون.
والذي استلهم الرضا لا يظهر أبداً
حسداً أو حقداً في أي لحظة.
أنا راضٍ بما كتبه الله لي
أقدم له الشكر والحمد بوفاقٍ جميل.
أنا راضٍ بكل نوع من البشر
سواء كان لئيماً أم نبيلًا.
لا أخشى أذا اللئيم ولا أجاهده
ولن أطلب شيئاً من النبيل حتى لو كان يسيراً.
فتح الله في قلبي فلا أريد
بديلًا عن الحب والوداد والحنين.
في قلبي مسكن لكل ضيف،
فتكون الضيف كريمًا أو ثقيلًا.
لقد ضل من يظن الرضا هواناً
أو يراه نصيباً من النفاق.
فالرضا نعمة من الرحمن،
لم يُعطَ إلا للقليل من العباد.
والرضا علامة البراءة والإيمان بالله
ناصراً ووكيلاً في كل الأمور.
علمتني الحياة أنها تمتلك طعمين:
مرة، وسائغاً كالعسل المصفّى.
فتعودت على حالتيها بصفة مستمرة
وألفت التغيير والتبديل.
يا أيها الناس، كلنا نشرب من الكأسين
إن كان علقماً أو سلسبيلاً.
نحن كالحياة: ربيع وذبول.
نحن كنجم، نُشرق ونغيب.
نحن كالريح، ثورة وهدوء.
نحن كالمطر، ممسك وهطول.
نحن كالأوهام، صادق وكاذب.
نحن كالحظ: منصف وخاذل.
قد تسرّي الحياة عني فتظهر
سخريات الورى واحدة تلو الأخرى.
فأراها مواعظ ودروسًا،
ويراها غيري أحداثًا جللاً.
لقد غرق الناس في خداع النفس،
وضلّوا عن الصواب وعقولهم.
عبادة المال والنفوذ والخدود
أدت بهم إلى التوهان في الفخاخ.
الأديب الضعيف جاهًا ومالًا
ليس سوى خبيث المعاني والعبارة.
أما القوي فمُعظم بالفضل والكرم،
أسلس أسرع إلى الخيرات.
عندما تتجلى أنثى أمامهم،
يخشعون أو يبتعدون في وجل.
يقرؤون القصائد في الحب والغزل،
ويتناسون القرآن والإنجيل.
لا يرغبون في الثواب من الله،
لأن الإنسان دائمًا متعجل.
لقد انتشر الفتنة في المدينة،
ولم تعفُ الفتن الصغار أو الشيوخ.
وإذا ما حاولت نصحهم، يجيبون:
لست رباً ولا نبيًا في القوم.
أرأيت الذي يكذب بالحقائق
ولا يرهب يوم الحساب الثقيل؟
غالبية الناس يحكمون من دون عدل،
فكيف تكون العدالة لهم أصلاً؟
فكم لقّبوا البخيل كريماً،
وكم لقّبوا الكريم بخيلاً.
وكم أعطوا المسكين من الملح،
وكم أهملوا العفيف المتواضع.
ربّ عذراء شريفة صُنعت،
وبغي قُدّم كالعفيفة.
وقطع الأيدي ظلماً وشراسة
أشبع الناس بقبلة الرذيلة.
وسجينًا تم صب عليه العقوبة،
وسجينًا آخر عامل بالتلمذة.
جلّ من قلد الغرب بيننا،
قد أساء التقليد والتنظير.
فقد أخذنا الخبائث منهم، ولم نحظَ
إلا بقليل من الطيبات.
يوم أحضر الغربيون كذبة إبريل
أصبح كل عمرنا إبريلاً.
نشروا الرجس وضحكنا به،
قبل أن نعتبره كتابً مفصلاً.
علمتني الحياة أن الهوى ينهمر،
فمن ذا الذي يستطيع رد السيول؟
ثم قالت: الخير في الكون دائم،
بل أرى الخير أصلاً أصيلاً.
إن تمكنت أن ترى الشر الذي يعم،
فلا يتساهل اليأس ممن يعاني.
ويمتد الصراع بين النقيضين،
ويرتقي الزمان جيلاً بعد جيل.
ومن المدهش أن الأيام تظهر
اختلاف ألوانها على مر الزمان.
فقد صار ذليل أمس عزيزاً،
وعزيز بالأمس صار ذليلاً.
قد تنهض القوي ليصير عليلاً،
بينما يسقط السليم مع جصدق.
ربّ جائع يتوق إلى فضاء الحياة،
وشبعان يستحث الرحيل.
أما الأرحام فلا تزال تدفع،
حتى تنهي بالبغي أمر الهبيلا.
ونشيد السلام يتلوه السفاحون،
قد شيدوا الخراب والقتال.
وحقوق الإنسان أصبح لوحة فنية
من التزوير والتضليل.
صورٌ لم تراها عيون في حياتك،
وبفكرك خشيت من الذهول.
قال صديقي: أراك تشكو مجموعة من الجروح،
أين نشيد الرضا الودود؟
فأجبت: جراح نفسي عالجتها
ببلسم الرضا لتذهب بعيدًا.
لكن السكوت عن آلام شعبي
ليس سوى خنوع ذليل.
كأننا لا نرغب لأمة أنبتتني
أخلاقًا سيئة وقسمًا هزيلة.
لست راضٍ عن الحسد أو النزاع،
ولست رضاً بالتخاذل أو التهاون.
أنا أطمح للسماح والمجد
وسيفًا على الأعداء مسلولًا.
حقًا علمتني الحياة أنني إن عشت
فلا أريد أن أكون رخيصًا أو هزيلًا.
وعلمتني الحياة دومًا أنني،
كلما تعلمت، أظل على جهل.
علمتني الحياة دائمًا أنني،
كلما تعلمت، أظل على جهل.
قصيدة: يا ابن أمي
قال أبو قاسم الشابي:
هلمّ، انطلق في سبيل الحياة،
فمن ينام، لا تنتظره الحياة.
لقد وُلِدت حرًا كنسيم الهواء،
وحُراً كنور الضحى في سماءه.
يغني كما يفعل الطير حين يتجه
ويُشدو بما يشاء من إلهام.
ويمرح بين ثمار الصباح،
وينعم بالنور حيثما كان.
وتمشي كما شاءت بين المروج،
وتقطف ورود الربى حيثما رأت.
هكذا صاغك الله، يا ابن الوجود،
وأنت في هذا الكون جزء من الحياة.
فما لك ترضى بعبودية الأغلال،
وتنحني لمن قيدوك بالأحمال؟
وتقنعبالحياة بين الكهوف،
فأين النشيد، وأين العزة؟
ألا تخشى نشيد السماء الجميل،
أم تتراجع أمام نورها في الأفق؟
هيا، انهض وامضِ في سبيل الحياة،
فمن ينام، لا تُنتظره الحياة.
فالنور عذب وجميل،
إلى النور فالنور ضوء الإله.
قصيدة: دع الأيام تفعل ما تشاء
قال الإمام الشافعي:
دع الأيام تفعل ما تشاء،
واصبر جملة إذا حكم القضاء.
ولا تجزع لحادثة الليالي،
فما لحوادث الدنيا بقاء.
كن رجلاً على الأهوال جلدًا،
وشيمتك السماحة والوفاء.
وإن كثرت عيوبك في البرايا،
وسرّك أن يكون لها غطاء،
يغطى بالسماحة كل عيب،
وكم عيب يغطّيه السخاء.
ولا حزن يدوم ولا سرور،
ولا بؤس عليك ولا رخاء.
ولا تري للأعدى قط ذلاً،
فإن شماتة الأعدى بلاء.
ولا ترجُ السماحة من بخيل،
فما في النار للظمآن ماء.
ورزقك ليس ينقصه التأنّي،
وليس يزيد في الرزق العناء.
إذا ما كنت ذا قلب قنوع،
فأنت ومالك الدنيا سواء.
ومن نزلت بساحته المنايا،
فلا أرض تقيه ولا سماء.
وأرض الله واسعة ولكن،
إذا نزل القضاء ضاق الفضاء.
دع الأيام تغدر كل حين،
ولا يغني عن الموت الدواء.
قصيدة: النفس تبكي على الدنيا
قال علي بن أبي طالب:
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت
أن السلامة فيها ترك ما فيها.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها
إلا التي كان قبل الموت بانيها.
فإن بناها بخير طاب مسكنها،
وإن بناها بشر خاب بانيها.
أين الملوك التي كانت مسلطة،
حتى سقاها بكأس الموت ساقيها؟
أموالنا لذوي الميراث نجمعها،
ودورنا لخراب الدهر نبنيها.
كم من مدائن في الآفاق قد بُنيت،
أمست خرابًا وداهم الموت دانيها.
لكل نفس وإن كانت على وجل،
من المنيّة آمال تقويها.
فالمؤمل يبسُطها والدهر يقبضها،
والنفس تنشرها والموت يطويها.
قصيدة: قال السماء كئيبة
كتب إيليا أبو ماضي:
قال السماء كئيبة وتجهما،
قلت: ابتسم يكفي التجهم في السماء.
قال: الصبـا ولّى فقلت له: ابتسم،
لن يُرجع الأسف الصبا المتصرماً.
قال: التي كانت سمائي في الهوى،
صارت لنفسي في الغرام جهنما.
خانَت عهودي بعدما ملكتُها
قلبي فكيف أطيق أن أتبسّما؟
قلت: ابتسم وأطرَب فلا قارنتها،
لقد قضيت عمرك كله متألّما.
قال: التجارة في صراع هائل،
مثل المسافر كاد يقتله الظما.
أو غادة مسلولة محتاجة،
لدَمٍ وتنفث كلما لهثت دما.
قلت: ابتسم ما أنت جالب دائها،
وشفائها، فإذا ابتسمت فربما
أَيكون غيرك مُجرِمًا وتبيت في
وجل كأنك أنت صرت المُجرما؟
قال: العدى حولي علت صيحاتهم،
أأُسرُّ والأعداء حولي الحمى؟
قلت: ابتسم لم يطلبوك بذمهم،
لو لم تكن منهم أجل وأعظمًا.
قال: المواسم قد بدت أعلامها،
وتعرضت لي في الملبس والدُمى.
وعلي للأحباب فَرْضٌ لازم،
لكن كفي ليس تملك درهماً.
قلت: ابتسم يكفيك أنك لم تزل،
حيًا ولست من الأحبة معدمًا.
قال: الليالي جرّعتني علقماً،
قلت: ابتسم ولئن جرعت العلقما.
فلعل غيرك إن رآك مرنماً،
طرح الكآبة جانبًا وترنّما.
أَتُراك تَغنَم بالتبرم درهماً،
أم أنت تخسر بالبشاشة مغنمًا؟
يا صاحِ لا خطرٌ على شَفتيك أن
تتَلثما والوَجهِ أن يتحطّما.
فأضحك فإن الشهب تضحك والدجى،
متلاطم ولهذا نحب الأنجما.
قال: البشاشة ليست تسعد كائناً،
يأتي إلى الدنيا ويذهب مُرغماً.
قلت: ابتسم ما دام بينك والردى،
شبرٌ فإنك بعد لن تتبسّما.
قصيدة: أيها الشاكي وما بك داء
كتب إيليا أبو ماضي:
أيها الشاكي وما بك داءٌ،
كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟
إن شر الجناة في الأرض نفسٌ،
تتوقى قبل الرحيل رحيلا.
وترى الشوك في الورود وتعمى،
أن ترى فوقها الندى إكليلا.
هو عبء على الحياة ثقيلٌ،
من يظن الحياة عبءًا ثقيلاً؟
والذي نفسه بغير جمالٍ،
لا يرى في الوجود شيئا جميلا.
ليس أشقى ممن يرى العيش مرًّا،
ويظن للذات فيه فضولا.
أحكم الناس في الحياة أناسٌ،
علّلوها فأحسنوا التعليلا.
فتنعّم بالصّبح ما دمت فيه،
لا تخف أن يزول حتى يزولا.
وإذا ما أظَلَّ رأسَك همٌ،
قصّر البحث فيه كيلا يطولا.
أدركت كنهها طيور الروابي،
فمن العار أن تظل جَهولا.
ما تراها والحقل ملك سواها،
تأخذ فيه مسرحًا ومقيلا.
تتغنّى والصقر قد ملك الجو،
عليها والصائدون السبيلا.
تتغنّى ورأت بعضَها يُؤخذ حيًا،
والبعضُ يقضي قتيلا.
تتغنّى وعمرها بعض عامٍ،
أفتبكي وقد تعيش طويلا؟
فهي فوق الغصون في الفجر تتلو،
سُوَرَ الوجد والهوى ترتيلا.
وهي طورًا على الثرا واقعاتٌ،
تلقط الحب أو تجر الذھیولا.
كلما أمسك الغصون سكونٌ،
صفّقَت للغصون حتى تميلا.
فإذا ذهَب الأصيل الرباوي،
وقفت فوقها تنادي الأصيلا.
فاطلب اللهو مثلما تطلب الأطیار
عند الهجير ظلًا ظليلا.
وتعلّم حب الطبيعة منها،
واترك القال للورى والقيلا.
فالذي يتقي العواذل يلقى
كل حين في كل شخص عذولا.
أنت للأرض أولًا وآخرًا،
كنت ملكًا أو كنت عبدًا ذليلاً.
لا خلود تحت السماء لحي،
فلِماذا تُراود المستحيلا؟
كل نجم إلى الأفول ولكن،
آفة النجم أن يخاف الأفولا.
غاية الورد في الرياض ذبولٌ،
كن حكيمًا واسبق إلى الذبول.
وإذا ما وجدت في الأرض ظلًا،
فتفيأ بهِ إلى أن يحولا.
وتوقع إذا السماء اكفهرّت،
مطرًا في السهول يُحيِ السهولا.
قل لقوم يستنزفون المآقي:
هل شفيتم مع البكاء قليلاً؟
ما أتيناه الحياة لنشقى،
فأريحوا أهل العقول العقول.
كل من يجمع الهموم عليه،
أخذته الهموم أخذًا وبيلًا.
كن هزّارًا في عشه يتغنّى،
ومع الكبل لا يبالي الكبول.
لا غرابًا يطارد الدود في الأرض،
وبومًا في الليل يبكي الطول.
كن غديرًا يسير في الأرض رقرقًا،
فيَسقي من جانبي الحُقول.
تستحم النجوم فيه، ويَلقى
كل شخصٍ وكل شيءٍ مثيلا.
لا وعاءً يقيد الماء حتى
تستحيل المياه فيه وحولا.
كن مع الفجر نسمةً توسع الأزر،
شمسًا وطرًا تلقبًا.
لا سمومًا من السوافي اللاتي
تملأ الأرض في الظلام عويلا.
ومع الليل كوكبًا يؤنس الغائب،
والنهر والربى والسُهُول.
لا دجى يكره العوالم والناس،
فيُلقي على الجميع ستارًا.
أيها الشاكي وما بك داءٌ،
كن جميلاً ترى الوجود جميلاً.