قصيدة العراق لعدنان الصائغ
إنّ العراق يتباعد
كلما تعمقت خطواته في المنافي
والعراق يتباطأ
كلما انفتحت نافذة جديدة
أقول، آه
والعراق يرتعد
كلما مر ظلّ غريب
أشعر أن هناك فوهة تتربص بي،
أو متاهة
والعراق يعاني من نقص
نصف تاريخه أغانٍ وكحل،
ونصف آخر معاناة.
قصيدة غريب على الخليج لبدر شاكر السياب
تلهث الرياح في الهجير كجثام، وقت الأصيل
والقلوع تطوى أو تفتح للرحيل
في خليج مكتظ بمرتادي البحار
مع كل سطح نصف عارٍ
وعلى الرمال، جلست الغريب
تأمل ناظراً في البحر الحائر
تخترق أعمدة الضياء بكاءً يصعد
أعلى من العبّاب تضج بصوته
صوت تفجّر في أعماق نفسي: العراق
كالمدّ يصعد، مثل السحابة، مثل الدموع في العيون
تصرخ الرياح بي: العراق
والموج ينادي: العراق، ليس إلا العراق!
البحر أوسع مما يمكن وأنت أبعد مما يبدو
والبحر دونك يا عراق
بالأمس، حين مررت بالمقهى، سمعتك يا عراق
كنت كما الأسطوانة تدور
دورة الأفلاك في عمري، تكوّر لي زمانها
في لحظات الأمان، وإن كنت قد فقدت مكانها
هي صورة والدتي في الظلام
وصوتها، يتزلق مع الرؤى حتى أنام
وهي النخيل أخشى منها إذا غرقت في غروب
تكتظ بالأشباح التي تخطف كل طفل يتيه
من الدروب
وهي العجوز تهمس دون أن تبوح عن حزامها
وكيف شقّ القبر عنه أمام عفراء الجميلة
فقد انتزعها.. إلا جديلة
يا زهراء، أتذكرين
تنورنا الوهّاج الذي تزحمه أكف المتعصبين
وحديث عمتي الهادئ عن الملوك القدامى
وراء باب كالقضاء
أغلقته على النساء
هل ستُطيع ما تشاء، لأنهن أيدي الرجال
كان الرجال يسكرون ويسمرون بلا ملل
هل تتذكرين؟ هل تتذكرين؟
لقد كنا سعداء قانعين
بتلك القصص الحزينة لأنها قصص النساء
حشد من الحيوات والأزمان، كنا نعيش بها
قطنّا بين الحياة كجرن ينام بين المضطرين
أليس هذا مجرد وهم؟
حلم ودورة اسطوانة؟
إن كان هذا كل ما يبقى، فأين هو العزاء؟
أحببت فيك عراق روحي أو أحببتك أنت فيه
يا أنتما مصباح روحي أنتما، وقد حلّ المساء
والليل قد أغلقت أبوابه، فلتشعّا في عتمته فلا أتيه
لو جئت إلى أرض غريبة، لم يكتمل اللقاء
اللقاء بك والعراق على يديّ.. هو المشهد
شوق يتدفق في دمي، كأن كل دمي يشتهي
جوع إليه، كجوع كل غريق للهواء
شوق الجنين عند ولادته من الظلام
أتساءل كيف يستطيع الخائنون الخيانة
هل يخون إنسان بلاده
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها، حتى الظلام
حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق
واحسرتاه، متى أنام
فأشعر بأن على وسادتي
من ليلك الصيفي عبق عطرك يا عراق
بين القرى المتهيبة خطاي والمدن الغريبة
غنيت لتربتك الحبيبة
وحملتها كأني المسيح في المنفى أجرّ صليبه،
فسمعت وقع أقدام الجياع تتجول، تخدشني بالكدمات
فتذر في عيني، منك ومن مناسمها، غبار
وما زلت أضرب على الأرض بأقدامي أشعث، في الدروب
تحت الشموس الغريبة
وموج البحر من الأعلام، أبسط بالسؤال يدي الرطبة
صفراء من ضعف وعار: عار شحاذ غريب
بين العيون الأجنبية
بين احتقار، وانتهار، وزجر .. أو (خطيئة)
والوفاة أهون من خطيئة
فمن ذلك الإفطار تعصره العيون الأجنبية
قطرات ماء.. معدنية
فلتنطفئ، يا أنت، يا قطرات، يا دم، يا.. نقود
يا ريح، يا إبر تخيط لي الشراع، متى أعود
إلى العراق؟ متى أعود؟
يا لمعة الأمواج وعنجاد المجداف في الخليج
يا نجم البحر العظيم.. يا نقود
ليت السفن لا تتطلب إجابة من رُكابها
أو ليت الأرض كالأفق العريض، بلا بحار
ما زلت أحسب يا نقود، أعدكنّ وأتمنى،
ما زلت أنقص، يا نقود، بكنّ من مدد اغترابي
ما زلت أشعل من تماعاتكن نافذتي وبابي
في الضفة الأخرى، فحدثيني يا نقود
متى أعود، متى أعود؟
هل سيقترب ذلك اليوم السعيد قبل موتي؟
سأستيقظ في ذلك الصباح، وفي السماء من الغيوم
كسور، وفي النسمات برد مشبع بعطور الخريف
وأزاح بالهفوات بقايا من نعاسي كالحجاب
من الحرير، يشف عما لا يظهر وما يظهر
عما نسيت وكدت لا أنسى، وشك في اليقين
سينير لي وأنا أمد يدي لأجد ما أبحث عنه في أعماق نفسي من جواب
هل ملأ الفرح الخفي شعاب نفسي كالكثافة؟
اليوم وفجأة تفجر الفرح عليّ، أعود
واحسرتاه.. فلن أعود إلى العراق
وهل يعود
من يفتقر للنقود؟ وكيف تدّخر النقود
وأنت تأكل إذا جعت؟ وأنت تنفق ما تجود
به الكرام، على الطعام؟
لتبكينّ على العراق
فما لديك سوى الدموع
وسوى انتظارك، بلا جدوى، للرياح وللسفن
قصيدة هل هذه بغداد ليحيى السماوي
أغمضتُ عيني عن شجر الهوى
فاسكبْ عطرَك على الثرى يا ساقي
ورميْتُ عني بردة أبلتيها
في حرب أشجاني على أشواقي
وبصخر صبري ما التحفت بغيره
وأنا أجوب متاهة الآفاق
ما عدتُ تنوراً لخبز صبابة
سفن المسرة آذنت بالفراق
جفّ الصداح على فمي وتخثرت
لغتي… وفّر الحرف من أوراقي
وتعبتُ من صوتي أنادي لاهثاً
وطني ونخل طفولتي ورفاقي
وأحبّة مرّت على بستانهم
خيول الغزاة فأصعرت أعماقي
وأنين ناعور وضحكة جدول
ورذاذ فانوس وجمر وجاق
أشفقتُ -من خوفي- عليَّ فأحرقت
نارُ الفؤاد سلافة الإشفاق
أدمنتُ خسراً منذ فجر يفاعتي
وهم المُنى ضَرْبٌ من الإخفاق
غرسوا الظلام بمقّلتي.. فتعطلت
شَمْسي ونافذتي عن الإشراق
المطلقون حمائمي من أسرها
شدّوا التراب وماءه بوثاق
فإذا بتحرير العراق وليمة
حفلت بما في الأرض من سراق
ما العجب لو خان الفؤاد ضلوعه؟
إن الذي خان العراق عراقي..!!
المستغيث من الظلام بظلمة
أدجى.. ومن مستنقع بذعاق
فإذا النضال نِخاسةٌ مكشوفةٌ
فاحت عفونتها بسوق نفاق
وإذا الطماح مناصب مأجورةٌ
يسعى لها زحفًا على الأعناق
ولقد رأيت النخل يلطمه
خجلاً من الماشين بمشي نياق
هل هذه بغداد؟ كنت عرفتُها
تأبى مهادنة الدخيل العاق
تأبى مساومةً على شرف الثرى
وتجود -قبل المال- بالأرقّ
ورثت عن “الحر” الحسام وعزيمته
وعن “الحسين” مكارم الأخلاق
هل هذه بغداد؟ تأكل ثديها
فإذا بها وعدوها باتفاق…؟
لو أن لي أمراً على قلبي فقد
عجّلتُ من تيهامها بطلاق
عقدت على طين العراق قِرانها
نفسي فمهرّي -خافقي- وصديقي
أخفقتُ في عشقي فكنت غريبةٌ
إن التغرّب منتهى الإخفاق
هذا دمي يا نخل… مصّرفه
فلقد رأيتك ظامئ الأعذاق
أسعف خريفي بالربيع لينتشي
ورد المنى في روضة المشتاق
واكنس ظلام الطائفية بالسنا
وأعد لدجلة زورق العشاق
فعساي أبدأ الحياة.. فلا أرى
وطني ذبيحا والدماء سواقي
يا أنت يا قلبي، أمثلك في الهوى
يشكو مواجع غربة وفراق؟
أوَلسْتَ من صام الشباب مُكابراً
عن ماء أعناب وخبز عناق؟
والمُثمِلات لذاذة بمباسم
والمُمطرات عذوبة بمآقي؟
يا من أضعتَ طفولة وفترةً
ماذا ستخسر لو أضعت باقي؟
هل في جرار العمر غير حثالة؟
أطبِق كتابَك.. لا وقت تلاقي.
إلى العراق لعبد السلام مصباح
عِراقُ …
سلاماً …
سلاماً من الشعر والشعراء
لحلم يشقّ خُطاه إلى مقلتيك
لسرب طيور
يحط الرحال على راحتيك
لنخلة
تغازل فجراً على ضفتيك
لطفل يخاتل دبابةً
لشيخ يهز جذوع النخيل
فتُرسل أوراقها طَلقةً
وزغردتين
عِراقُ …
سلام الفصول الخصيبة
وسيدة المطر
لبغداد والكوفة
لكركوك والبصرة
وللفلوجة
وللنجف الأشرف …
فتحت ثراها ينام الشهيد
ومن صلبها
يتدفق نور وظل
ويولد ألف شهيد
فتفرد عشتار
للعاشقين قزح
عِراقُ …
أتينا لننشد أشعارنا
وفي الحلق جمر
وفي القلب جرح
وفي الحرف نار وثورة
فهل تقبلين الغناء
ليرقص عشب البراري
ويكتب أسماءك الرائعة.
عِراقُ …
أتينا لرفع أصواتنا
ونُهتِفَ للكبرياء
ولهمم الشامخة
وللواقفين انتظاراً
على صهوة العاصفة
وللحاملين صليب الوطن
عِراقُ …
سلاماً… سلاماً
فنهرُك لن ينضب
وشعبُك لن يهرب
وكل تماثيل قش
وقود لنارك
وحبل غسيل
على سطْح دارك