إن الحب ليس مرتبطاً بسبب أو غرض معين، بل هو شعور نبيل يتجاوز المصالح. يمكن للناس بلوغ هذه الدرجة من الحب الإلهي من خلال الجهاد والزهد، حيث يُعتبر الزهد المرحلة الأولى من التصوف.
أشعار صوفية تعبر عن الحب
دعونا نستعرض مجموعة مختارة من أجمل الأشعار الصوفية حول الحب، كما كتبها أبرز الشعراء، وذلك في الأقسام التالية:
قصيدة سقتني حميّا الحب راحة مقلتي
ظهر الشعر الصوفي في بداياته في عصر الأندلس، ويُمكن القول إن الأندلس كانت البيئة التي احتضنت أكبر عدد من الشعراء الصوفيين، حيث نشأت ملامح القصائد الصوفية. إليكم قصيدة ابن الفارض الشهيرة في الحب:
سقتني حميَّا الحبِّ راحةَ مقلتي.
وكأسي محيَّا منْ عنِ الحسن جلَّتِ.
فأوهمْت صَحبي أنّ شرْبَ شَرَابهِم.
بهِ سرَّ سرِّي في انتشائي بنظرة.
وبالحدقِ استغنيت عنْ قدحي ومنْ.
شمائلها لا منْ شموليَ نشوتي.
ففي حانِ سكري، حانَ شكري لفتية.
بهمْ تمَّ لي كتم الهوى مع شهرتي.
ولمَّا انقضى صحوي تقاضيت وصلها.
ولمْ يغْشَني، في بسْطِها، قبض خَشيتي.
وأبْثَثْتها ما بي، ولم يك حاضِري.
رقيبٌ لها حاظٍ بخلوة ِ جلوتي.
وقلْت، وحالي بالصّبابَة شاهدٌ.
ووجدي بها ماحيَّ والفقد مثبتي.
هَبي، قبلَ يفني الحب مِنّي بقِيّة .
أراكَ بها، لي نظرَة َ المتَلَفّتِ.
ومِنّي على سَمعي بلَنْ، إن منَعتِ أن.
أراكِ فمنْ قبلي لغيريَ لذَّتِ.
فعندي لسكري فاقة لإفاقة ٍ.
لها كبدي لولا الهوى لمْ تفتّتِ.
ولوْ أنَّ ما بي بالجبال وكانَ طو.
رسينا بها قبلَ التَّجلِّي لدكَّتِ.
هوى عبرة ٌ نمَّتْ بهِ وجوى ً نمتْ.
به حرقٌ أدواؤها بي أودتِ.
فطوفان نوحٍ، عندَ نَوْحي، كأدْمَعي.
وإيقاد نيرانِ الخليلِ كلوعتي.
ولولا زفيري أغرقتني أدمعي.
ولولا دموعي أحرقتني زفرتي.
وحزني ما يعقوب بثَّ أقلَّه.
وكل بِلى أيوبَ بعْض بَلِيّتي.
وآخر ما لاقى الألى عشقوا إلي الرَّ.
ـرّدى، بعْض ما لاقيت، أوّلَ محْنَتي.
وفي ساعة ٍ، أو دونَ ذلكَ، مَن تلا.
لآلامِ أسقامٍ، بجِسمي، أضرّتِ.
لأَذكَرَه كَرْبي أَذى عيشِ أزْمَة ٍ.
بمنْقَطِعي ركْبٍ، إذا العيس زمّتِ.
وقدْ برَّحَ التَّبريح بي وأبادني.
ومَدْح صِفاتي بي يوَفّق مادِحي.
فنادمت في سكري النحولَ مراقبي.
بجملة ِأسراري وتفصيلِ سيرتي.
ظهرت له وصفاً وذاتي بحيث لا.
يراها لبلوى منْ جوى الحبِّ أبلتِ.
فأبدتْ ولمْ ينطقْ لساني لسمعهِ.
هواجِس نفسي سِرَّ ما عنه أخْفَتِ.
وظَلّتْ لِفِكْري، أذْنه خَلَداً بها.
يَدور بهِ، عن رؤْيَة ِالعينِ أغنَتِ.
أحَبّنيَ اللاّحي، وغارَ، فلامَني.
مجيباً إلَيها، عن إنابَة ِمخْبِتِ.
كأنَّ الكرامَ الكاتبينَ تنزَّلوا.
على قَلْبِهِ وحْياً، بِما في صحيفَتي.
وما كانَ يدري ما أجن وما الَّذي.
حَشايَ منَ السِّرّ المَصونِ، أَكَنَّت.
وكشف حجابِ الجسمِ أبرزَ سرَّ ما.
بهِ كانَ مستوراً له منْ سريرتي.
فكنت بسرِّي عنه في خفية ٍوقدْ.
خفته لوهنٍ منْ نحولي أنتئ.
لَقيلَ كنَى، أو مسّه طَيْف جِنّة ِ.
له والهوى يأتي بكلِّ غريبة ِ.
قصيدة طَلَعَتْ شمس من أحبّ بلَيّلٍ
تاريخ الشعر العربي زاخر بالعديد من القصائد الصوفية الرائعة لأهم الشعراء الصوفيين. من أبرز تلك القصائد “طَلَعَتْ شمس من أحبّ بلَيّلٍ” للشاعر الكبير الحلاج، الذي يقول فيها:
طَلَعَتْ شمس من أحبّ بلَيّلٍ فـ.
ـاستنارت فما عليها من غروب.
عن شمس النهار تطلع باليلـ.
ـلِ وشمس القلوب ليس تغيـب.
رأَيت ربّي بعين قلبِ.
فقلت من أنت قال أنت.
فليس للأين منك أينٌ.
وليس أين بحيث أنت.
وليس للوهم منك وهمٌ.
فيعلم الوهم أين أنت.
أنت الذي حزْتَ كل أين.
بنحو لا أينَ فأينَ أنت.
وفي فنائي فنا فنائي.
وفي فنائي وجدت أنت.
لي حبيبٌ أزور في الخلـوات.
حاضر غائب عن اللحظات.
ما تراني أصغي إليه بسمــع.
كي أعي ما يقول من كلمات.
كلمات من غير شكل ولا نطق.
ولا مثل نغمة الأصــوات.
فكأنّـي مخاطب كنت إيــًّاه.
على خاطري بذاتي لذاتــي.
حاضـر غائب قريب بعيــدٌ.
وهو لم تحوه رسوم الصفات.
هو أدل من الضمير إلى الوهم.
وأخفى من لائح الخطـرات.
سرّ السرائر مَطْــوِيٌّ بإثبات.
في جانب الأفْق ِمن نور بـِطيَّات.
فكيف والكيف معروف بظاهــره.
فالغيب باطنه للذاتِ بالـــذات.
تـَاهَ الخلائق في عمياءَ مظلمــةٍ.
قصدا ولم يعرفوا غير الإشارات.
بالظنّ والوهم نحو الحقّ مطلبهـم.
نحوَ الهواء يناجون السمــاوات.
والــربّ بينهم في كـل منقـلب.
محِلَّ حالاتهم في كل ساعــات.
وما خلوا منه طرف عين لو علموا.
وما خلا منهم في كل أوقــات.
قصيدة قلبي يحَدّثني بأَنّكَ متْلِفِي
سنواصل استعراض الأشعار الصوفية حول الحب، وسنضيء على قصيدة “قلبي يحَدّثني بأَنّكَ متْلِفِي” للشاعر ابن الفارض:
قلبي يحَدّثني بأَنّكَ متْلِفِي.
روحي فِداكَ عرَفْتَ أمَ لم تَعْرِفِ.
لم أَقْضِ حَقّ هَواكَ إن كنت الذي.
لم أقضِ فيِه أسًى ومِثليَ مَنْ يَفي.
ما لي سِوَى روحي وباذِل نفسِهِ.
في حبّ مَن يَهْواه ليسَ بِمسرِف.
فلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسعَفْتَني.
يا خَيبَة المَسْعَى إذا لم تسْعِفِ.
يا مانِعي طيبَ المَنامِ ومانِحي.
ثوبَ السّقامِ بِهِ ووَجْدِي المتْلِفِ.
عَطفًا على رَمقي وما أبقَيتَ لي.
منْ جسميَ المضْنى وقلبي المدَنَفِ.
فالوَجْد باقٍ والوِصَال مماطلي.
والصّبْر فانٍ واللّقاء مسَوّفي.
لم أَخل من حَسَدٍ عليك فلا تضِعْ.
سَهَري بتَشْنِيع الخَيالِ المرجِفِ.
واسأَلْ نجومَ اللّيلِ هل زارَ الكَرَى.
جَفني وكيف يزور مَن لم يَعْرِفِ.
لا غَرْوَ إن شَحّتْ بغمْضِ جفونها.
عيني وسَحّتْ بالدّموعِ الذّرّفِ.
وبما جرَى في موقفِ التوديعِ مِنْ.
ألمِ النّوَى شاهدت هَولَ الموقفِ.
إن لم يكنْ وصلٌ لدَيْكَ فعِدْ به.
أَمَلي وَمَاطِلْ إنْ وَعَدْتَ ولا تفي.
فالمَطْل منكَ لدَيّ إنْ عزّ الوفا.
يحلو كوَصَلٍ من حبيبٍ مسْعِفِ.
أهْفو لأنفاسِ النّسِيمِ تَعِلّةً.
ولوَجْه مَن نقَلَتْ شَذَاه تشوّفي.
فلَعَلّ نارَ جوانحي بهبوبِها.
أن تنطَفي وأوَدّ أن لا تنطَفي.
يا أهلَ ودّي أنتم أَمَلي ومَن.
نَادَاكم يا أَهْلَ ودّي قد كفي.
عودوا لِما كنْتم عليه من الوفا.
كَرَمًا فإنّي ذَلِكَ الخِلّ الوَفي.
وحياتِكمْ وحياتِكمْ قَسَمًا وفي.
عمري بغيرِ حياتِكمْ لم أحْلِف.
لو أَنّ روحي في يدي وَوَهَبْتها.
لمبَشّري بِقدومكمْ لم أنْصِف.
لا تحسَبوني في الهوى متَصَنّعًا.
كَلَفي بِكمْ خلقٌ بغيرِ تكلف.
أخفَيت حبّكم فأخفاني أسًى.
حتى لعَمري كِدْت عني أختفي.
وكتمْته عنّي فلو أبدَيْته.
لوَجَدْته أخفى منَ اللطْف الخَفي.
ولقد أَقول لِمَنْ تحَرّشَ بالهوى.
عرّضْتَ نفسَكَ للبَلا فاستهدف.
أنتَ القَتِيْل بأيّ مَنْ أحبَبْتَه.
فاختر لنَفْسِكَ في الهوى من تصطفي.
قلْ للعذولِ: أطلْتَ لومي طامعًا.
إنَّ الملامَ عن الهوى مستوقِفي.
بَرَحَ الخَفاء بحبّ مَنْ لَوْ في الدّجى.
سَفَرَ اللّثامَ لقلْت يا بدر اختَفِ.
وإن اكتفى غَيري بطَيفِ خيالِهِ.
فأنا الّذي بوِصالِهِ لا أكتَفي.
وهَواه وهْوَ أليّتي وكَفَى بِه.
قَسَمًا أكاد أجِلّه كالمصْحَفِ.
قصيدة أبواب بيتكَ هذا الليل مؤصدة
يُعتبر الشعر الصوفي أحد الفروع الأدبية المهمة، حيث يُعبر عن تأملات الشعراء في حبهم وعشقهم لله تعالى. لذا، إليك قصيدة “أبواب بيتكَ هذا الليل مؤصدة”:
أبواب بيتكَ هذا الليل مؤصدة.
والسّور حتى لسيلِ الدمعِ لمْ يحدِ.
فكيف أجمع آلامي لنافلةٍ.
وكيفَ أسْكت هذا الجرح في خلدي.
وكيفَ أرفع آذاني لقافيةٍ.
وكيفَ أفرغ ما في الوقت من أبدِ.
يا ربِّ والطرقات امتدَّ آخرها تشدني.
وحبال العمرِ من مسدِ.
وهذه الأرض ما ضاقتْ على أحدٍ.
فكيفَ يا ربِّ ضاق الكون في أحدِ.
فادخل مساجدَ أيامي التي صدِئتْ.
ما دام بابك لم يرأفْ بطرق يدي.
وأرسل ملائكةَ ترقى لأغنيتي.
فإن صوتي يتيم الأم والولدِ.
من غير مقتدرٍ يرنو لمنكسرٍ.
أو غير منفردٍ يحنو لمنفردِ؟
قصيدة أَبداً تَحنّ إِلَيكم الأَرواح
تميز الشعر الصوفي بالعديد من السمات، مثل الرمزية، والعاطفة الحقيقة، والتجربة العميقة. إليكم قصيدة بعنوان “أَبداً تَحنّ إِلَيكم الأَرواح” للشاعر السهروردي:
أَبداً تَحنّ إِلَيكم الأَرواح.
وَوِصالكم رَيحانها وَالراح.
وَقلوب أَهلِ وِدادكم تَشتاقكم.
وَإِلى لَذيذ لقائكم تَرتاح.
وَا رَحمةً للعاشِقينَ تَكلّفوا.
سرّ المَحبّةِ وَالهَوى فَضّاح.
بِالسرِّ إِن باحوا تباح دِماؤهم.
وَكَذا دِماء العاشِقينَ تباح.
وَإِذا هم كَتَموا تَحَدّث عَنهم.
عِندَ الوشاةِ المَدمع السَفّاح.
أَحبابنا ماذا الَّذي أَفسدتم.
بِجفائكم غَير الفَسادِ صَلاح.
خَفضَ الجَناح لَكم وَلَيسَ عَلَيكم.
لِلصَبّ في خَفضِ الجَناح جناح.
وَبَدَت شَواهِد للسّقامِ عَلَيهم.
فيها لِمشكل أمّهم إِيضاح.
فَإِلى لِقاكم نَفسه مرتاحةٌ.
وَإِلى رِضاكم طَرفه طَمّاح.
عودوا بِنورِ الوَصلِ مِن غَسَق الدّجى.
فَالهَجر لَيلٌ وَالوصال صَباح.
صافاهم فَصَفوا لَه فَقلوبهم.
في نورِها المِشكاة وَالمِصباح.
وَتَمَتّعوا فَالوَقت طابَ لِقربِكم.
راقَ الشّراب وَرَقّتِ الأَقداح.
يا صاحِ لَيسَ عَلى المحبِّ مَلامَةٌ.
إِن لاحَ في أفق الوِصالِ صَباح.
لا ذَنبَ لِلعشّاقِ إِن غَلَبَ الهَوى.
كِتمانَهم فَنما الغَرام فَباحوا.
سَمَحوا بِأَنفسِهم وَما بَخِلوا بِها.
لَمّا دَروا أَنّ السَّماح رَباح.
وَدعاهم داعي الحَقائقِ دَعوة.
فَغَدوا بِها مستَأنسين وَراحوا.
رَكِبوا عَلى سنَنِ الوَفا وَدموعهم.
بَحرٌ وَشِدّة شَوقهم مَلّاح.
وَاللَّهِ ما طَلَبوا الوقوفَ بِبابِهِ.
حَتّى دعوا فَأَتاهم المفتاح.
لا يَطربونَ بِغَيرِ ذِكر حَبيبِهم.
أَبَداً فَكلّ زَمانِهم أَفراح.
حَضَروا وَقَد غابَت شَواهِد ذاتِهم.
فَتَهَتّكوا لَمّا رَأوه وَصاحوا.
أَفناهم عَنهم وَقَد كشفَت لَهم.
حجب البقا فَتَلاشتِ الأَرواح.
فَتَشَبّهوا إِن لَم تَكونوا مِثلَهم.
إِنَّ التَّشَبّه بِالكِرامِ فَلاح.
قم يا نَديم إِلى المدامِ فَهاتها.
في كَأسِها قَد دارَتِ الأَقداح.
مِن كَرمِ أَكرام بدنّ ديانَةٍ.
لا خَمرَة قَد داسَها الفَلّاح.
هيَ خَمرة الحبِّ القَديمِ وَمنتَهى.
غَرض النَديم فَنعم ذاكَ الراح.
وَكَذاكَ نوحٌ في السَّفينة أَسكَرَت.
وَلَه بِذَلِكَ رَنَّةً وَنِياح.
وَصَبَت إِلى مَلَكوتِهِ الأَرواح.
وَإِلى لِقاءِ سِواه ما يَرتاح.
وَكَأَنَّما أَجسامهم وَقلوبهم.
في ضَوئِها المِشكاة وَالمِصباح.
مَن باحَ بَينَهم بِذِكرِ حَبيبِهِ.
دَمه حلالٌ لِلسّيوفِ مباح.