أعمال الشاعرة نازك الملائكة وعالمها الشعري

نازك الملائكة

نازك صادق الملائكة، شاعرة عراقية وُلدت في بغداد عام 1923م وتوفيت في القاهرة عام 2007م، نشأت في عائلة مثقفة حيث كان والدها مدرّساً للغة العربية، وكانت والدتها شاعرة عرفت باسمها المستعار “أم نزار”. درست نازك في دار المعلمين العالية وتخرجت منها عام 1949م، ثم حصلت على درجة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن – ماديسون في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1959م. تُعتبر نازك من رواد الشعر الحر في العراق، ولها مجموعة من القصائد المعروفة، إليك لمحة عن بعض أعمالها الشهيرة:

الكوليرا

  • قصيدة “الكوليرا” تُعد من أبرز قصائد الشعر الحر التي كتبتها نازك، حيث استخدمت الرموز للتواصل مع عقل القارئ، وتناولت فيها مأساة الشعب المصري:

سكان الليل

أصغِ إلى وقع صدى الأهات

في عمق الظلمة تحت الصمت على الأموات

صرخات تعلو تهتز

حزن يتدفق ويلتهب

يتعثر فيه صدى الآهات

في كل فؤاد غليان

في الكوخ الساكن أحزان

في كل مكان روح تصرخ في الظلمات

في كل مكان يبكي صوت

هذا ما مزقه الموت

الموت الموت الموت

يا حزن النيل الصارخ مما فعل الموت

طلع الفجر

أصغِ إلى وقع خطوات الماشين

في صمت الفجر انظر ركب الباكين

عشرة أموات كلهم عشرون

لا تحصي أصغ للباكين

اسمع صوت الطفل المسكين

موتى، موتى ضاع العدد

موتى، لم يبق غد

في كل مكان جسد يندبه محزون

لا لحظة إخلاد لا صمت

هذا ما فعلت كف الموت

الموت الموت الموت

تشكو الإنسانية تشكو ما يرتكب الموت

الكوليرا

في كهف الرعب مع الأشلاء

في صمت الأبد القاسي حيث الموت دواء

استيقظ داء الكوليرا

حقداً يتدفق موتوراً

هبط الوادي المرح الوضّاء

يصرخ مضطربًا مجنوناً

لا يسمع صوت الباكين

في كل مكان خلف مخلبه أصداء

في كوخ الفلاحة في البيت

لا شيء سوى صرخات الموت

الموت الموت الموت

في شخصية الكوليرا القاسية ينتقم الموت

الصمت مرير

لا شيء سوى رجع التكبير

حتى حفار القبر ثوى لم يبق نصير

الجامع مات مؤذنه

الميت من سيؤبنه؟

لم يبق سوى نوح وزفير

الطفل بلا أم وأب

يبكي من قلب ملتهب

وغداً لا شك سيلقفه الداء الشرير

يا شبح الهيضه ما أبقيت

لا شيء سوى أحزان الموت

الموت، الموت، الموت

يا مصر شعوري مزقته ما فعل الموت

أنا

ما الأنا سوى الذات وما الذات سوى الأنا الطامح نحو المعرفة التي تغيب وتبتعد كلما اقترب منها. تناولت الشاعرة نازك الملائكة بعض القضايا في قصيدتها “أنا”، وهي تعبير عن حيرتها وتخبطها بين ثنايا هذه القصيدة:

الليل يسأل من أنا

أنا سره القلق العميق الأسود

أنا صمته المتمرد

قنعت كنهي بالسكون

ولففت قلبي بالظنون

وبقيت ساهمة هنا

أرنو وتسألني القرون

أنا من أكون

والريح تسأل من أنا

أنا روحها الحيران تنكرني الزمان

أنا مثلها في لا مكان

نبقى نسير ولا انتهاء

نبقى نمر ولا بقاء

فإذا بلغنا المنحنى

خلناه خاتمة الشقاء

فإذا فضاء

والدهر يسأل من أنا

أنا مثله جبارة أطوي عصور

وأعود أمنحها النشور

أنا أخلق الماضي البعيد

من فتنة الأمل الرغيد

وأعود أدفنه أنا

لأصوغ لي أمسًا جديداً

غده جليد

والذات تسأل من أنا

أنا مثلها حيرى أحدق في ظلام

لا شيء يمنحني السلام

أبقى أسائل والجواب

سيظل يحجبه سراب

وأظل أحسبه دنا

فإذا وصلت إليه ذاب

وخبا وغاب

المدينة التي غرقت

تناولت الشاعرة نازك في قصيدتها “المدينة التي غرقت” موضوع الفيضان الذي أغرق مدينة بغداد الجديدة عام 1954م:

وراء السداد التي ضمدوا جرحها بالحصير

وخلف صفوف الصرائف حيث يعيش الهجير

يسير طريق تدثّر بالطين نحو المدينة

وأطلالها حيث بات يعيش اصفرار السكينة

وكانت تجيش وتزخر ساحاتها بالحياة

وكانت تهش وتضحك للشمس كل صباح

وكانت منازلها المرحات تلاقي القمر

بضحك نوافذها فاستكانت وصاح القدر

وجاء الخراب ومدّد رجليه في أرضها

وأبصر كيف تنوح البيوت على بعضها

لسقف هوى وتداعى وشرفة حب صغيرة

وأرسل عينيه في نشوة يرمق الأبنية

وجاء الخراب وسار بهيكله الأسود

ذراعاه تطوي وتمسح حتى وعود الغد

واسنانها الصفر تقضم باب وترد شرفه

وأقدامه تطأ الورد والعشب من دون رأفة

وسار يرش الردى والتعفن ملء المدينة

يخرّب حيث يحل وينشر فيها العفونة

يهبّ الخراب ويضحك نشوان بين الحفر

ويرسل ضحكته العصبية ملء الفضاء

وتنمو الخشونة حيث يلامس وجه التراب

وتنبت أقدامه طحلباً لزجاً وذباب

ويأتي الصباح ويختبئ في مكمن

وتخفيه مستنقعاتفساح عن الأعين

وماذا تبقى سوى الموت والملح في كأسها

ويرسل ضحكته العصبية ملء الفضاء

فتنفر منه النجوم ويثقل مفعول الهواء

وتنمو الخشونة حيث يلامس وجه التراب

وتنبت أقدامه طحلباً لزجاً وذباب

ويأتي الصباح ويختبئ في مكمن

وتخفيه مستنقعاتفساح عن الأعين

وتصحو المدينة ظمأى وتبحث عن أمسها

وماذا تبقى سوى الموت والملح في كأسها

أسطورة عينين

أسطورة عينين تُعد من أجمل القصائد التي كتبتها الشاعرة نازك الملائكة، حيث استخدمت فيها الأسلوب النثري:

عينان طلسماً ولغزاً أصم

يحتار في تفسيره التائهون

غيبان من عهدٍ سحيق القدم

وضفّتا شطّ طوتها القرون

عينان لون نابض ساخن

شيء من الشرق لذيذ الفتور

وفيهما العراف والكاهن

ومعبد مخدر بالبخور

عينان أم مزارع في الظلال

تُرقرق العبير في الأودية

وهُدبها أم رعشة البرتقال

أم نجمة تخفق؟ أم أغنية

عينان أم عوالم شاسعة

ويؤبؤ أم دعوة للرحيل

باب إلى يوتوبيا الضائعة

ومعبر يُنهي إلى المستحيل

وفي مطاويها وساد الحلم

ومن حواشيها ارتواء الوتر

عينان ما كاد يعيها النغم

حتى دعا أشواقه وانفجر

وذلك العمق الذي لا يُحد

يحمل للرائين سر الظمأ

أحس فيه لا انتهاء الأبد

وموكب التاريخ منذ ابتدأ

يروون عنها أن أغوارها

ذوب نجوم أطفأتها السنين

وأن من أدرك أسرارها

فك الرّدى عن الإسار المهين

وأنها، كما روا آخرون

بقية من أعين آفلـة

عينا ميدوزا أفرغ الساحرون

ما فيهما من قوة قاتلة

ستلبث العينان سراً عميقاً

ويذرع الراوون أرض الخيال

أسطورة تظلّ سكرى البريق

ما بقي الشعر وعاش الجمال

القصر والكوخ

تناولت الشاعرة نازك في قصيدتها “الكوخ والقصر” موضوع الفرق بين حياة الفقر والغنى:

كل فجر أرى الرعاة يمرون

فأبكي على حياة الرعاة

في ثلوج الجبال أو لهب الشمس

يريقون مبهجات الحياة

ويمر القطيع بي فأرى الأغنام

بين الذبّاح والسكين

يا حياة الإنسان لا فرحة في

إذا لم تصحب بدمع غبين

فكنوز الغني يجمعها الفلاح

في عمره الشقي الكسير

ذلك الكادح المعذب في القرية

بين المحراث والناعورة

كل صيف يسقي البساتين تحت الشمس

والقصر هاجع وسنان

فهو يلقي البذور والمترف الها

يجني وتشهد الأحزان

يا ليالي الحصاد ماذا وراء ال

حقل والحاصدين من مأساة

شهد الكوخ أنه يحمل الحزن

تحظى القصور بالخيرات

كيف يجني الأزهار والقمح والأثمار

من لم يجرح يديه القدوم

ويموت الفلاح جوعا ليفتر عن عيني رب القصور نعيم

كيف هذا يا ربّ رفقًا بنا رفقًا فقد غصّت الكؤوس دموعاً

وطغت في الفضاء آهاتنا الحي

تغني رجاءنا المصقول