أفضل قصائد نزار قباني المعروفة بجمالها

قصيدة: كلمات

يُديرني على أنغامٍ تبهج أحلامي

كلمات ليست كالكلمات

تأخذني في أحضانها، تحت جناحيها

تزرعني بين الغيوم كنوع من الأمان

وفي عيون المطر الأسود

تُساقطني زخاتٍ متتالية

تأخذني إلى ليلٍ ورديٍ مفعم بالبهجة

وأنا كطفلة في يديه

مثل ريشة تطير مع نسائم الهواء

يمنحني سبعة أقمار

وباقة من الألحان الجميلة

يهدي لي شمسًا وضوءًا

وعطر عذري ينشر السعادة

يخبرني أنني كنزه

وأنني أغلى من آلاف النجوم

وأنني لوحته الفنية المذهلة

يروي لي حكايات تُغني روحي

تجعلني أنسى تواريخي

تحوّلني إلى امرأة في لحظات من الإلهام

يبني لي قصرًا في عالم الخيال

لكني لا أسكن فيه سوى لحظات ساذجة

ثم أعود إلى طاولتي

لا شيء لدي، سوى الكلمات

قصيدة: رسالة حب صغيرة

حبيبتي، لدي الكثير من الأسرار

أقولها لك، من أين أبدأ، يا غاليتي؟

كل ما فيك أمير، ملك، سلطان

أنتِ التي تُنظم أحرفي

فتُلقيني في بحور من الحرير

هذي أغانيّ وهذا أنا

في هذا الكتاب الصغير الذي يضمنا

غدًا حين تتصفحين الأوراق

واشتاق لكِ مصباح الحب وأشعار السرير

وستطحس أحرف الشوق فيكِ

بينما تهمس الفواصل بكلمات من العشق

فلا تقولي: ها هو الفتى

يتحدث عن المنحنيات والأنهار

حتى الأزهار، واللوز، والتوليب

وأنني قادر على السير في الحياة إذا مشيتِ

والمستقبل هو ثمرة أحلامنا

غدًا سأكون في شعره

بين نبيذ الجمال والشعر القصير

دعي حديث الناس، لن تكوني

عظيمة إلا بفضلي في حب كبير

فما ستصبح الأرض لو لم نكن هنا

وما ستكون عيناكِ إن غبتِ؟

قصيدة: خمس رسائل إلى أمي

صباح الخير يا غالية،
صباح الخير يا قديسة الروح،
مر عامان على الابن الذي أبحر
في رحلة غير عادية،
خبأ في حقائبه صباح بلاده الأخضر
وأنجمها، وأنهارها، وكل ألوان الشقيق.
خبأ في ملابسه شذى النعناع والزيتون
وباقة دمشقية.
أنا وحدي هنا، في دخان سجائري.
ومقعدي يتأوه بجانب حزني.
وعصافيري تبحث عن فرحها وسط الحقول.
لقد عرفت نساء أوروبا،
وعواطف الإسمنت والخشب،
وحضارة التعب والمعاناة،
طفت على أرض الهند والسند،
لكن لم أجد امرأة تمشّط شعري الأشقر
وتحمل معي عرائس السكر.
أيا أمي،
أنا الولد الذي أبحر
وما زالت عروس السكر تعيش في خاطري.
كيف، كيف يا أمي
أن أصبح أبًا قبل أن أكبر؟
صباح الخير من مدريد،
ما أخبار وردة الفل؟
تلك الطفلة كانت أغلى حبيبة لأبي،
يدللها كطفلته،
ويدعوها إليه بفنجان قهوته
ويطعمها،
ويغمرها برحمته،
وما زالت تبحث عنه في كل مكان،
وتسأل عن عباءته،
وعن جريدته،
وتتساءل، حين يأتي الصيف،
عن عينيه وابتسامته.
سلامات، سلامات،
إلى منزل زُرع فيه الحب والرحمة،
إلى زهورك البيضاء، فرحة ساحة النجمة،
إلى كتبي وأحبتي وأطفال حارتي،
وحيطان ملأناها بفوضى أحلامنا،
وإلى قططٍ تتجول في الشوارع.
مر عامان يا أمي
ووجه دمشق عصفورٌ ينقر أحلامنا.
مر عامان يا أمي
وفي دمشق الطيبة ومآذنها
تضيء الناس في أرواحنا.
مآذن الشام تبكي عندما تعانقني،
لأن هناك روحًا تنمو كالأشجار.
حقول الياسمين تنمو في بيوتنا،
وقطة المنزل تستلقي حيث ترتاح.
طاحونة البن جزء من طفولتنا،
فكيف أنسى رائحة الهيل؟
هذا مكان أبي المعتز،
ووجه فائزة يبتسم لي.
هنا جذوري، هنا قلبي، هنا لغتي،
فكيف أستطيع أن أوضح لك كل هذا؟
كم من دمشقيةٍ تخلت عن أسماكها
لأتغزل بها والشعر مفتاح لمحبتي؟
أتيت كالصفصاف معتذرًا،
فهل تسامح هي؟
خمسون عامًا،

فوق المحيط، وما في الأفق مصباح.
تلاعبتني بحار بلا شواطئ،
وشياطين وأرواح قاسيت.
أقاتل القبح في شعري وأدبي،
حتى يتفتح نوار قداح.
ما للعروبة تبدو كالأرملة؟
أليس في تاريخ الأفراح ما ينبض بالحياة؟
ماذا سيبقى من أصالة الشعر إذا تولاه النصب والجدل؟
كيف نكتب والأقفال في أفواهنا؟
يجلب القتل كل ثانية لنا.
حملت شعري على ظهري فأتعبني،
لم يتبقى شيء من الشعر حين يرتاح.

قصيدة: لا بد أن أستأذن الوطن

يا صديقتي،
في هذه الأيام،
تخرج من جيوبنا فراشات صيفية تُدعى الوطن،
تخرج من شفاهنا عريشة شامية تُدعى الوطن،
تخرج من قمصاننا مآذن وبلابل
وجداول قلوب وأزهار عطرية،
عصفور مائي يُدعى الوطن.
أريد أن أراك، يا سيدتي،
لكنني أخاف من جرح إحساس الوطن.
أريد أن أهتف إليك، لكنني أخاف أن تسمعني نوافذ الوطن.
أريد أن أمارس الحب على طريقتي،
لكنني أستحي من حماقتي
أمام أحزان الوطن.

قصيدة: القصيدة الدمشقية

هذه دمشق، وهذه الكأس والراووق

إنني أحب، وبعض الحب ذبّاح.
أنا الدمشقي، لو جرحتم بدني
لسال منه عناقيد وتفاح.
ولو فتحتم شراييني بموساكم
ستسمعون في دمي أصوات راح.
وزراعة القلب تشفي من أحبوا،
فما لي إذا أحببت جراح.
ألا تزال بخير دار فاطمة؟
فالنهد مستنفر والكحل صبّاح.
إن النبيذ هنا نار معطرة،
فهل عيون نساء الشام أقداح؟
مآذن الشام تبكي إذ تعانقني
وللمآذن كالأشجار أرواح.
للياسمين حقول في منازلنا،
وقطة البيت تغفو حيث قست.
طاحونة البن جزء من طفولتنا،
فكيف أنسى؟ وعطر الهيل فواح.
هذا مكان “أبي المعتز” منتظر
ووجه “فائزة” حلو لمّاح.
هنا جذوري، هنا قلبي، هنا لغتي،
فكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟
كم من دمشقية باعَت أساورها
حتى أغازلها والشعر مفتاح؟
أتيتُ، يا شجر الصفصاف، معتذرًا،
فهل تسامح هيفاء ووضّاح؟
خمسون عامًا وأجزائي مبعثرةٌ
فوق المحيط، وما في الأفق مصباح.
تلاعبتني بحار بلا شواطئ،
وطاردتني شياطين وأشباح.
أقاتل القبح في شعري وفي أدبي
حتى يفتّح نوّار وقدّاح
ما للعروبة تبدو كالأرملة؟
أليس في كتب التاريخ أفراح؟
والشعر ماذا سيبقى من أصالته
إذا تولاه نَصّاب ومدّاح؟
وكيف نكتب والأقفال في فمنا؟
وكل ثانية تأتيك سفاح؟
حملت شعري على ظهري فأتعبني
ماذا من الشعر يبقى حين يرتاح؟

قصيدة: على دفتر

سأجمع تاريخي كلّه
على دفترٍ خاص بي.
سأرضع كل فاصلة
حليب الكلمة الشهي.
سأكتب، لا يهم لمن أكتب،
سأكتب هذه الأسطر،
فحسبي أن أبوح هنا
وليس لي همٌ آخر.
حروفٌ لا مكترثة،
أبعثرها على الدفتر،
بلا أمل بأن تبقى
بلا أمل بأن تُنشر.
لعلّ الريح تحملها
فتزرع في تنقلها
هنا غابة من الزعتر
هنا كرْماً
هنا بيدر
هنا شمس وصيفٌ أخضر.
حروفٌ سأفرطها
كقلب الخوخ الأحمر
لكل سجينة حيا
معي في سجني الأكبر.
حروفٌ سأغرسها
بلحم حياتنا خنجرا
لتكسر في تمرّدها
جليدًا كان لا يُكسر،
لتخلع قفل تابوتٍ
أعد لنا لكي نقبر.
كتاباتٌ أقدّمها
لروحٍ تشعر
سيسعدني إذا بقيت
غدًا مجهولة المصدر.

قصيدة: أحاول إنقاذ آخر أنثى قبيل وصول التتار

أعد فناجين قهوتنا الفارغات،
وأنهي آخر كسر شعري،
وأضرب جمجمة رأسي بالجدار.
أعدكِ جزءًا فجزءًا
قبل انسحابكِ منّي، وقبل رحيل القطار.
أعد أناملكِ النحيلة،
أعد الخواتم في يديك
وأعد شوارع نهدَيْكِ بيتًا فبيتًا.
أعد الأرانب تحت غطاء السرير،
أعد ضلوعكِ، قبل العناق وبعده.
أعد مسامات جلدكِ
قبل دخولي، وبعد خروجي،
وقبلهما وبعدهما.
أعد أصابع رجليكِ
حتى أتأكد أن الحرير بخير
وأن الحليب بخير
وأن بيانوا (موزارت) بخير
وأن الحمام الدمشقي ما زال ينط.
أعد تفاصيل جسدك
شبرًا فشبرًا، وبحرًا وبحرًا،
وساقًا وخصراً، ووجهًا وظهرًا.
أعد العصافير
التي تسرق من بين نهدَيْكِ قمحًا وزهرًا.
أعد القصيدة، بيتًا فبيتًا
قبل انفجار اللغات
وقبل انفجاري.
أحاول أن أتمسك بحلمة الثدي
قبل أن يسقط السماء عليّ
وقبل أن يسقط الستار.
أحاول إنقاذ آخر نهدي
جميلٍ وآخر أنثى
قبل وصول التتار.
أقيس مساحة خصركِ
قبل سقوط القذيفة فوق زجاج حروفي
وقبل انشطاري.
أقيس مساحة عشقي فأفشل
كيف بإمكان شراعٍ صغير
كقلبٍ اجتياز أعالي البحار؟
أقيس الذي لا يُقاس
هل تقبلين اعتذاري؟
أعد قناني عطوركِ فوق الرفوف
فتجتاحني نوبة دوار
وأحصي فساتينكِ الرائعات
فأدخل في غابةٍ
من نحاسٍ ونار.
سنابل شعركِ تشبه أبعاد حريتي
وألوان عينيك فيها انفتاح البَرَاري.
أيا امرأةً لا أزال أعد يديك
وأخطئ بين شروق اليدين
وبين شروق النهار.
أيا ليتني ألتقيك لخمس دقائق
بين انهياري وبين انهياري.
هي الحرب تمضغ لحمي ولحمك
ماذا أقول؟
وأي كلام يتناسب مع هذا الدمار؟
أخاف عليكِ، ولست أخاف نظري
فأنتِ جنوني الأخير.
أنتِ احتراقي الأخير،
أنتِ ضريحي وأنتِ مزاري.
أعدكِ
بدءًا من القرط، وحتى السوار،
ومن منبع النهر حتى خليج المحار.
أعد فناجين شهوتنا،
ثم أبدأ في عدّها من جديد.
لعلّي نسيتُ الحساب قليلاً
لعلّي نسيتُ الحساب كثيراً،
لكنني لم أنسَ السلام

كرائحة شجر الخوخ في شفتيكِ

ورائحة الورد والجلنار.
أحبكِ،
يا امرأةً لا تزال معي في زمان الحصار.
أحبكِ،
يا امرأةً لا تزال تقدم لي فمها وردةً
في زمان الغبار.
أحبكِ حتى التقمص،
حتى التوحد،
حتى فنائي فيكِ، وحتى اندثاري.
أحبكِ،
لا بد أن أقولَ قليلًا من الشعر
قبل قرار انتحاري.
أحبكِ،
لا بد لي أن أحرّر آخر أنثى
قبل وصول التتار.