أنواع الغزل في العصر العباسي
شهد الغزل في العصر العباسي تطورًا ملحوظًا، نتيجة تزايد مظاهر الترف والسرور؛ حيث قام الشعراء بالانغماس في ملذات الحياة، مستكشفين كل جوانبها. وقد أثر ذلك بشكل كبير على نوعية الشعر في هذا العصر. نستعرض فيما يلي الأنواع الرئيسية للغزل في العصر العباسي:
الغزل الشاذ
خلال العصر العباسي، تدهورت الأخلاق والدين، وانتشر الفسق بين الناس بشكل عام. ونتيجةً لذلك، تجاوز الغزل حدوده التقليدية، وفقد الحب قيمته الأصلية، مما دفع الشعراء إلى التعبير عن أنفسهم بشكل أكثر جرأة. تم السخرية من القيم التقليدية وكثير من الشعراء العذريين، وأدى الانغماس في شرب الخمر وظهور الجواري والغلمان إلى تراجع مفهوم العفة، مما نتج عنه ما يعرف بالغزل الشاذ.
يُطلق عليه اسم الشاذ لأنه يمثل نوعًا جديدًا من الغزل الذي ظهر في ذلك العصر ويتسم بالفجور. ينطوي هذا النوع على التغزل بالمذكر، حيث قام شعراء المجون بتوجيه مشاعرهم نحو الغلمان، بدلًا من النساء، معتقدين أن الشذوذ يعكس تحضرهم. كان معظم هؤلاء الغلمان من الفرس والروم، الذين يعملون سقاةً في دور اللهو. أدت مظاهر الرفاهية والابتعاد عن الدين إلى ابتكار أشكال جديدة من الفسق، اعتبرها البعض دليلاً على التطور الحضاري.
ومن بين الشعراء المعروفين في هذا النوع، نجد أبو نواس ويوسف بن حجاج الثقفي والحسين بن ضحاك وسعيد بن وهب. لم يتوقف الغزل عند حد الغلمان السقاة بل شمل أيضًا أشخاصًا آخرين، ويبرز هذا الأمر بشكل خاص عند أبي نواس والحسين الخليع، الذين كان لكل منهما أكثر من غلام. وغالبًا ما نرى في قصائدهم مشاعر الفراق والحرمان، جنبًا إلى جنب مع الشكوى والتألم، وكأنهم يتحدثون عن تجربة حب مع امرأة وليست مع غلام. فيقول أبو نواس في إحدى قصائده معبرًا عن حزنه بسبب جفاء غلامه:
جفاني بلا جرم إليه اجترمته
و خلفني نضواً خليّاً من الصبر
ولو بات و الهجران يصدع قلبه
لجاد بوصل دائم آخر الدهر
الغزل العذري
حسب زكي مبارك، يمثل الغزل العذري “حبًا خالصًا من شوائب الدنس والرجس، حبًا طاهرًا شريفًا لا يعرف المخازي”. وقد أُطلق على الغزل العذري هذا الاسم نسبةً إلى قبيلة بني عذرة، التي اشتهرت بهذا النوع من الحب النقي والغزل العفيف، حيث كان لعشاقها المخلصين سمعة بالصبر والعفة. كان بعضهم إذا أحب ماتوا، فأصبحوا رمزًا لهذا الحب النقي.
برز في العصر العباسي عدد من الشعراء الذين اختصوا بالغزل العذري، حيث كانت أشعارهم تدور حول محبوباتهم ويكرسون حياتهم في التعبد لهن. ومن أبرز هؤلاء الشعراء كان ابن ميادة، الذي أظهر صورة العاشق البدوي العذري بشكل مثالي. أحب ابن ميادة امرأة تُدعى أم جحدر، وعندما علم والدها بأمر حبهما، حلف على تزويجها لرجل آخر، فتزوجت من رجل من أهل الشام وذهبت معه. وقد أبدع الشاعر في التعبير عن حزنه بسبب هذا الفراق واللوعة التي خيمت عليه نتيجة قرار والدها، فقال:
تفاقَدَ قومي إذ يبيعون مُهجتي
بجاريةٍ بهراً لهم بعدها بهرا
ومن بين أشهر شعراء الغزل العذري، نجد ابن الرومي الذي قال:
يا ظبية البانِ ترعى في خمائله **** لِيَهنِك اليوم إن القلب مرعاك
الماء عندك مبذولٌ لشاربه **** و ليس يرويكِ إلا مدمعي الباكي
كما قال بشار بن برد:
فقلتُ دعوا قلبي و ما اختار و ارتضى **** فبالقلب لا بالعين يُبصر ذو اللّب
وما تبصر العينان في موضع الهوى **** ولا تسمع الأذان إلا من القلب