استقبال أهل المدينة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم
تُعَدُّ هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة واحدة من الأحداث المحورية في الإسلام، وقد جاءت نتيجة لزيادة معاناة المسلمين في مكة تحت ضغط قريش وأشكال التعذيب المتعددة. لذا، استأذن المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم للهجرة، في حين انتظر النبي الوحي من الله ليُحدد موعد هجرته.
لكن السبب المباشر لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم كان القرار الجائر لقريش بقتله؛ إذ أتى جبريل عليه السلام ليخبر النبي بمكائد قريش ويؤكد له أن الله قد أذن له بالخروج.
شهدت الهجرة بداية مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام، إذ كانت فصلاً جديداً وضع حدًا للتحمل الكبير الذي عاناه النبي والمسلمون في مكة، وافتتحت مرحلة جديدة من الدعوة الإسلامية في المدينة، حيث بدأ الإسلام ينتشر في أنحاء الجزيرة العربية ويواجه أعداءه بشكل أكبر.
الانتظار المتلهف
كان المسلمون في المدينة على علم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وقد كانوا ينتظرون بفارغ الصبر مجيء النبي، مُختلطة مشاعرهم بين الشوق والقلق، فكانوا يخرجون في الصباح الباكر إلى أطراف المدينة، منتظرين وصوله، وعندما يشتد الحر عليهم، يعودون إلى منازلهم. يُظهر ذلك حماسهم العميق وولاءهم للنبي الذي أحبوه قبل أن يروه.
انبثاق خبر الوصول
عند وصول النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى خيمة أم معبد، انتشر الخبر بين أهل المدينة في يوم الإثنين الثاني من شهر ربيع الأول في السنة الرابعة عشرة من البعثة. خرج المسلمون انتظارًا لرسولهم، وعندما اشتد الحر، عادوا إلى بيوتهم، وجاء النبي بعد دخولهم. رآه أحد اليهود وتبعه مناديًا، فتجمع المسلمون حوله لينادوا بالتكبير والتهليل، حيث وصل صوت التكبير إلى منازل بني عمرو بن عوف، فخرجوا مسرعين لاستقباله.
استقبال جموع الناس له
خرج المسلمون بأعداد كبيرة، يتقدّمهم خمسمئة من الأنصار، ليُحيطوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر. في شوارع المدينة كان صوت الأنصار يعلو بنشر خبر قدوم النبي، وتجمّع الأطفال والرجال والنساء يرددون: “طَلَعَ الْبَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّاتِ الْوَدَاعْ”.
يروي البراء بن عازب رضي الله عنه أن أول من جاء إلى المدينة كان مصعب بن عمير وابن أم مكتوم، وقد قدما لتعليمهم القرآن، ثم تبعهم عمار وبلال وسعد، وأخيرًا جاء النبي صلى الله عليه وسلم. ومن شدة الفرح، كان الأطفال يرددون: “هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء”.
تعبيرات الفرح احتفاءً بالقدوم
يذكر أنس رضي الله عنه أنه عندما مر رسول الله عبر حي بني النجّار، كانت النساء تضرب الدفوف وتعلن: “نحن جارات من بني النجّار، يا حبذا محمد من جار”. وذلك كان عند قدوم النبي إلى المدينة كما ورد في تفسير القرطبي.
السعي لتقديم الضيافة
خرج جميع أهل المدينة لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم، وكان هذا اليوم مميزًا كأنه عيد. وعلى الرغم من أن أهل المدينة لم يكونوا من الأثرياء، إلا أنهم حاولوا بكل جهدهم استضافته. كلما مرت ناقة النبي أمام أحدٍ، كان يُتَمنى أن ينزل ضيفًا في بيته.
وفي نهاية المطاف، نزل النبي في بيت أبي أيوب الأنصاري، حيث قال: “أي بيوت أهلنا أقرب؟”، فأجاب أبو أيوب: “أنا يا رسول الله، هذه داري وهذا بابي.” فقال النبي: “فانطلق وهيئ لنا مقيلا”.
كرم الضيافة
أظهر زعماء الأنصار حرصهم على استضافة النبي، فكانوا يدعونه لقضاء حاجته في بيوتهم، لكنه كان يطلب منهم أن يتركو الناقة لأنها مُوجهة. في مسألة كرم أبي أيوب، كان يفضل أن يكون النبي في الطابق الأعلى، ولكنه رغب في خفض مكانته في المنزل أمام النبي، لكن النبي انتقل إلى الغرفة العلوية.
بعدما انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الإذن الإلهي للهجرة، غادر مكة مع أبي بكر إلى يثرب. استقبل أهل المدينة النبي بفرحة عارمة، بينما كان الجميع يتمنى استضافته، وتحقق ذلك لأبي أيوب الأنصاري الذي أكرمه وأحسن ضيافته.
الدروس المستفادة من استقبال النبي في المدينة
يمكن استنتاج الدروس التالية من استقبال أهل المدينة للنبي صلى الله عليه وسلم:
- حب أهل المدينة العظيم للنبي، حيث تجلى ذلك في لهفتهم وانتظارهم لساعات في الحر، ورغبتهم الكبيرة في استضافته، مما يدل على ارتباطهم القوي بالدين ورسوله الكريم.
- كان استقبال أهل المدينة تسلية لقلب النبي بعد المشاق التي عاناها في مكة، حيث فتحت لهم قلوبهم وبيوتهم، فعكس ذلك روح التعاون والمودة.
- استعداد الأنصار للتضحية وكرمهم، حيث أظهروا استعدادهم لمشاركة مواردهم مع المهاجرين، كما قال الله تعالى: ﴿يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ﴾، فكرم الأنصار وشرف نفوسهم كان نموذجاً للمشاركة والإيثار.
تمتاز قصة استقبال أهل المدينة للنبي بكثير من العبر والدروس، مما يدل على ما حصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم من تخفيف لمآسيه بعد لطف الله تعالى، وكان رد فعل أهل المدينة من أجمل التعويضات.