أول من جهر بقراءة القرآن الكريم
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتلو القرآن جهراً في مكة، دون أن يخشى أذى قريش. ومع ذلك، لم يستطع أحد من الصحابة أن يفعل ذلك حتى جاء الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- الذي جهر بالقرآن، ليكون بذلك أول من يجهر بآيات الله بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-.
قصة أول جهر بالقرآن
تجنّب مشركو قريش سماع القرآن الكريم، خشية أن يؤثر في نفوسهم، لذا تعرّضوا للأذى لكل من يجرؤ على جهره. اجتمع المسلمون ذات يوم وتساءلوا عن من سيجهر بالقرآن، فقال عبد الله بن مسعود: “أنا سأفعل”، لكن الصحابة أعربوا عن قلقهم على سلامته، وفضلوا اختيار من له عشيرة تحميه. لم يأبه عبد الله -رضي الله عنه- بذلك، وأكد أنهم إن تعرضوا له، فإن الله سيحميه. في صباح اليوم التالي، بينما كان مشركو قريش عند الكعبة، أقام عبد الله في المقام وبدأ يقرأ سورة الرحمن بصوت مرتفع. بدأ أهل قريش يتساءلون عن ما يقرأه، وعندما أدركوا أنه يقرأ القرآن سرعت خطواتهم نحوه وانهالوا عليه بالضرب. عقب ذلك، عاد عبد الله -رضي الله عنه- إلى أصحابه، وقد بدت آثار الضرب على وجهه، فقالوا له: “هذا ما خفنا حدوثه.” لكنه أكد أنه مستعد للعودة في اليوم التالي لجهر بالقرآن مجدداً، ولكنهم نصحوه بعدم القيام بذلك بعد أن سمعهم ما يكرهون.
الدروس المستفادة من قصة الجهر بالقرآن
تشير قصة جهر عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- بالقرآن إلى عدة أمور مهمة، ومنها:
- ضرورة إخفاء العبادات في العموم إلا ما أذن الله -تعالى- به، كالجهر بالصلاة، وقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- حريصاً على الالتزام بهذا الأمر، ومع ذلك خضع للأذى والسخرية.
- تظهر شجاعة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- حيث لم تتوقف تلاوته بالرغم من الأذى الذي تعرض له، وكذلك حال بقية الصحابة -رضوان الله عليهم- الذين واجهوا الأذى بمحاربة قريش في سبيل نشر الدعوة، مما أدى إلى انتشار الإسلام بشكل ملحوظ.
- كان غيظ الكافرين يتزايد كلما سمعوا المسلمين يتلون القرآن، مما زاد من إيذائهم للمسلمين، حيث أدركوا أن الدعوة لا تزال تنتشر وأن عدد الداخلين في الإسلام في تزايد.
مكانة عبد الله بن مسعود
يعد عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- من أوائل الذين اعتنقوا الإسلام قبل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-. عُرف بلقب صاحب الستر والسواك. وتوفي في أوائل الثلاثينيات من عمره، ودفن في البقيع. كان يقوم بخدمة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من خلال إحضار السواك له في حالة فقده، وكان معروفاً بين الصحابة بهذا الشأن.
قبل إسلامه، كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- يرعى أغنام عقبة بن أبي معيط، وعندما مرّ عليه النبي -عليه السلام- مع أبي بكر -رضي الله عنه-، طلب منه أن يسقيه من اللبن. فأوضح له عبد الله أنه ليس صاحب الأغنام بل مؤتمن عليها، فأشار له النبي -صلى الله عليه وسلم- بإحضار ولد جف ضرعه. وعند دعاء النبي -عليه السلام- جرى اللبن وشربه النبي وأبو بكر وعبد الله -رضي الله عنهم-. في تلك اللحظة أثار النبي -صلى الله عليه وسلم- إعجابه ودعاه للتعلم، بينما لم يكن عنده أدنى فكرة عن أنه سيكون أحد أعلام الإسلام لاحقاً.
كان معروفاً بين الصحابة بفهمه وورعه. وقد اجتمع مجموعة منهم عند علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وعبّروا عن إعجابهم بخلقه وأسلوبه، ولم يكن هناك أحد بمكانته وحظوته في دخول بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- كما كان له. وقد كان له حب خاص من الرسول حيث قال الله -عليه الصلاة والسلام-: “لو كنتُ مؤمِّرًا على أمَّتي أحدًا من غيرِ مشورةٍ منهم لأمَّرتُ عليهم ابنَ أمِّ عَبدٍ”. وعندما ضحك الصحابة عليه لعدم تناسب ساقيه مع جسده، انبأهم الرسول -عليه السلام- أن ساقيه أثقل في الميزان من جبل أحد.
إيذاء قريش للنبي وأصحابه
توزعت فئات الذين آمنوا بدعوة محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى أصناف متنوعة، وتعرض جميعهم لأذى قريش. وكان المستضعفون من المسلمين أكثر تضرراً، حيث واجهوا أنواعاً من العذاب لا يتحملها بشر، بينما استمتع أصحاب الامتيازات بحماية قومهم، إلا أنهم لم يسلموا من الأذى أيضاً. كان المستضعفون يتعرضون لعقوبات قاسية من سادات قريش، مثل تقييدهم بحديد تحت حرارة الشمس أو السير بهم في أزقة مكة، ولم يكن للنبي -صلى الله عليه وسلم- القدرة على حمايتهم، لكنه كان يخفف عنهم بذكر ثوابهم على صبرهم، مذكراً إياهم بمواقف الذين صبروا قبلهم وواعداً بنصر الله -تعالى- لهم، مما منحهم القوة للاستمرار في الابتلاء حتى تحقق وعد الله.