قصيدة أبي للشاعر محمود درويش
أدار نظرةً نحو القمر،
وانحنى ليحتضن التراب،
فليصلِّ..
إلى سماء خالية من المطر،
وقد نهاني عن السفر!
أشعلت البرق الأودية،
حيث كان والدي،
يعتني بالحجارة،
منذ زمن بعيد، ويزرع الأشجار،
جلده يتلقى الندى،
ويده تتفتح كالأشجار،
فبكى الأفق مغنيةً:
كان أوديس فارسًا،..
كان في المنزل أرغفة،
ونبيذ، وأغطية،
وخيول، وأحذية،
وعندما صلى والدي على حجر،
قال: أدر وجهك عن القمر،
واحذر البحر.. والسفر!
في اليوم الذي كان الإله فيه يضرب عبده،
سالته: هل يجب علينا أن نكفر؟
فروى لي والدي، وغضّ رأسه:
في حوار مع الألم،
كان أيوب يشكر خالق الدود والسحاب،
خلق الجرح لي أنا،
لا لمت، ولا لصنم،
فاستمر الجرح مع الألم،
وأعني على الندم!
مرت في الأفق كوكبًا،
نازلًا.. نازلًا،
وكان قميصي
بين نار وريح،
وكنت أفكر في رسوم على الأرض،
وأبي قال مرة:
من لا وطن له،
لا قبر له في الثرى،
ونهاني عن السفر.
من قصيدة أبي للشاعر إيليا أبو ماضي
طوى بعض نفسي لأن الثّرى قد أخذك عني،
وأبقى باقي النفس يفيض من جفني.
أبي! لقد خانني الموت فانهارت،
مقصورات أحلامي كبيت من التين.
كانت حدائقي في ذاك الزمان ضاحكة،
فأصابها التجفاف وفقدت زهرها.
كانت آمالي مملوءة بالسرور،
فأسقطت يد عمياء الخمر والدّهن،
فلم يبقى إلا طعم المنية في فمي،
وصوت النائحات في أذني.
لا جمال في ناظري، ونادراً
كنت أفتح عيني من قبل إلا على شكل جميل.
لكن ما عادت صورة الأشياء بعدك سوى
ما شوهته يد الحزن.
قلبي في نار، وعيناي في ضباب،
أبحث عن الحزن في دمعي والتويج.
كنت أظن الحزن جبنًا،
فكيف استحال ابتسامتي حزنًا؟
كمن يستنكر في عاصف رعدة الغصن،
يقول المعزّي لا يجدي البكاء.
قول المعزّي لا يفيد ولا يغني،
نظرت بروحي حائرًا، متطلعًا،
إلى ما وراء البحر، أتقرب، وأستدني.
كحالة من طائر أدرك السيل عشه،
فطارت على خفق تحوم حول الوكن.
فواها لو كنت وسط القوم حينها،
تسألهم عني.
ويا ليت الأرض أنطوت لي بساطها،
فأكون مع الباكين في ساعة الدفن.
لعلّي أؤدي واجب الأبوة،
وإن لم يف بكيل أو وزن،
فأعظم مجدي كان أنك لي أب.
وأكبر فخري هو قولك: هذا ولدي!
أقول: لي ربما، لأبقى هادئة،
وكلما قلت: لو أنني، تعمق حزني.
حتى وداع الأهل يحزن الفتى؟
يا دهر، ما هذا المنتهى للظلم والغبن!
أبي! وعندما أقولها كأنني
أنادي وأدعو يا بلدي ويا مكاني.
فمن يلجأ المكروب بعدك في الحمى،
فيرجع مثل النهر المني ضاحك الأسنان؟
أنت من خلع الصبا في ميدان المجد ناصعًا،
وزينك الشيب عن دنس الفناء.
كنت كالنجم في صيف أول الدجى،
ورأيت كحد السيف أو ذلك الذهن.
كنت ترى الدنيا دون بشاشة،
كأرض بلا مرفأ وصوت بلا لحن.
من قصيدة رثاء الأب للكاتب عبد الرحمن العشماوي
هزي جذوعك يا غصون اللوز،
في وطني العزيز،
فقد يصبح البعيد قريبًا لنا،
وربما غنت عصافير الصفاء،
وغرد القمري،
وابتسم الكئيب.
هزي غصونك،
وانثري لوزك في الأرض يا جذوع،
ودعي النسيم يثير شجن الفروع،
ودعي شموخك يا جذوع اللوز،
يهزأ بالخضوع.
هزي غصونك،
ربما سمع الزمان صدى الحفيف،
وربما وصل الفقير إلى رغيف،
وربما طبع الربيع قبلة الخريف.
هزي غصونك،
ربما بعث الصفاء إلى مشاعرنا،
بريدك،
وربما تفيأت الكلمات في درب المنى،
ظل القصيدة.
أنا يا جذوع اللوز،
أغنية على ثغر اليقين،
أنا طفلة تنظر إلى الآفاق،
رافعة الجبين.
أنا من ربا المرزوق،
تعرفني ربوع بني كبير،
أملي يغرد يا جذوع اللوز،
في قلبي الصغير،
وأبي العزيز يكاد بي،
من فرط لهفته، يطير.
أنا يا جذوع اللوز من صنعت لها المأساة،
مركبة صغيرة،
أنا التي قدحت على مدى الأحلام،
ذاكرة البصيرة.
لأرى خيال أبي وكان رعيتي،
وأنا الأميرة.
كم كنت أمشط رأسه،
وأجر أطراف العمامة،
وأريه من فرحي ربا خضرا،
ومن أملي غمامة.
كم كنت أصنع من تجهمه،
إذا غضب، ابتسامة.
أنا يا جذوع اللوز،
بنت فقيد واجبه مساعد،
أنا التي اقترب منها الحزن.
قلبي بعيدٌ عن حمى قلبي،
تباعد.
أنا طفلة تُدعى عهود،
أنا صرخة للجراح،
تصفع وجه من خالف العهود.
أنا بسمة في ثغر هذا الكون،
خالطها الألم.
صوتي يردد في شموخ،
عفواً أبي العزيز، إذا أسرجت،
خيل الذكريات،
فهي التي تقرب الأحياء،
صورة من فرقتهم أمات.
عفواً،
إذا برزت بي الكلمات حد اليأس،
واحترق الأمل،
فأنا أرى في وجه أحلامي خجل،
وأنا أردد في وجل،
يا ويل عباد الإمامة والإمام،
أما يحفظون الذمام؟
كم روعوا طفلةً مثلني،
من قصيدة سأَلوني: لِمَ لَمْ أَرْثِ أَبي؟
يقول الشاعر أحمد شوقي:
سأَلوني: لِمَ لَمْ أَرْثِ أَبي؟
ورثاء الأَب دين، أي دين؟
أيها اللوم، ما أظلمكم!
أين لي العقل الذي يسعد؟
يا أبي، ما أنت في ذا أول؟
كل نفس للمنايا فرض عين.
هلكت قبلـك ناس وقبائل،
ونعى الناعون خير الثقلين.
غاية المرء وإن طال المدى،
آخذٌ يأخذه بالأصغرين.
وطبيب يتولى عاجزاً،
نافضاً من طبّه خفي حنين.
إن للموت يداً إن ضَرَبَتْ،
أوشكت تصدع شمل الفرقدين،
تنفذ الجو على عقبانه،
وتلاقي الليث بين الجبلين.
وتحط الفرخ من أيكته،
وتنال الببغا في المئتين.
أنا من مات، ومن مات أنا،
لقي الموت كلانا مرتين.
نحن كنا مهجة في بدن،
ثم صرنا مهجة في بدنين،
ثم نعود موسوعة في بدن،
ثم نُلقى جثة في كفنين،
ثم نحيا في علي بعدنا،
وبه نُبعث أولى البعثتين.
انظر الكون وقل في وصفه،
قل: هما الرحمة في مرحمتين.
فقدا الجنة في إيجادنا،
ونعمنا منهما في جنتين.
وهما العذر إذا ما أُغضِبَا،
وهما الصفحُ لنا مسترضيين.
ليت شعري أي حي لم يدن
بالذي دَانا به مبتدئين؟
ما أَبِي إلا أَخٌ فارقتُه،
وأَماتَ الرسلَ إلا الوالدين.
طالما قمنا إلى مائدة،
كانت الكسرة فيها كسرتين.
وشربنا من إناء واحد،
وغسلنا بعد ذا فيهاليدين.