قصيدة بلقيس
يقول نزار قباني في رثاء زوجته بلقيس:
شكرًا لكم، شكرًا لكم، فحبيبتي قُتِلَت، وصار بإمكانكم أن تشربوا كأسًا على قبر الشهيدة. وقصيدتي اغتيلت، هل من أمةٍ في الأرض إلا نحن من تغتال القصائد؟ بلقيس كانت أجمل الملكات في تاريخ بابل، كانت أطول النخلات في أرض العراق، وكانت إذا تمشّيت ترافقها طواويسٌ وتتبعها أيائل.
بلقيس، يا وجعي، ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأنامل، هل يا تُرى من بعد شعركِ سوف ترتفع السنابل؟ يا نينوى الخضراء، يا غجريتي الشقراء، يا أمواج دجلة، تلبس في الربيع بساقيها أحلى الخلاخل، قتلوكِ يا بلقيس، أي أمةٍ عربيةٍ تلك التي تغتال أصوات البلابِل؟ أين السموأل والمُهلهل والغطاريف الأوائل؟
فقبائلٌ أكلت قبائل، وثعالبٌ قتلت ثعالب، وعناكبٌ قتلت عناكب، أقسم بعينيكِ اللتين إليهما تأوي ملايين الكواكب. سأقول يا قمري عن العرب العجائب، فهل البطولة كذبةٌ عربيةٌ أم مثلنا التاريخ كاذب؟ بلقيس، لا تتغيّبي عنّي، فإن الشمس بعدكِ لا تُضيء على السواحل. سأقول في التحقيق إن اللص أصبح يرتدي ثوب المقاتل، وسأقول في التحقيق إن القائد الموهوب أصبح كالمقاول.
وأقول إن حكاية الإشعاع أسخف نكتةٍ قيلت، فنحن قبيلةٌ بين القبائل. هذا هو التاريخ يا بلقيس، كيف يُفرّق الإنسان ما بين الحدائق والمزابل؟ بلقيس، أيتها الشهيدة والقصيدة والمُطهّرة النقية، سبأٌ تفتش عن مليكتها. فردي للجماهير التحية، يا أعظم الملكات، يا امرأة تُجسّد كل أمجاد العصور السومرية.
بلقيس، يا عصفورتي الأحلى، ويا أيقونتي الأغلى، ويا دمعةً تناثرت فوق خد المجد. أترى ظلمتكِ إذ انتقلتِ ذات يومٍ من ضفاف الأعظمية؟ بيروت تُقتل كل يومٍ واحداً منا، وتبحث كل يومٍ عن ضحية، والموت في فنجان قهوتنا، وفي مفتاح شقتنا، وفي أزهار شرفتنا، وفي ورق الجرائد والحروف الأبجدية. ها نحن يا بلقيس ندخل مرةً أخرى لعصر الجاهلية، ها نحن ندخل في التوحش والتخلّف والبشاعة والوضاعة. ندخل مرةً أخرى عصور البربرية، حيث الكتابة رحلةٌ بين الشظية والشظية. حيث اغتيالُ فراشةٍ في حقلها صار القضية.
هل تعرفون حبيبتي بلقيس؟ فهي أهم ما كتبتم في كتب الغرام. كانت مزيجًا رائعًا بين القَطيفة والرخام. كان البنفسج بين عينيها ينام ولا ينام. بلقيس، يا عطرًا بذاكرتي، يا قبرًا يسافر في الغمام. قتلوكِ في بيروت مثل أي غزالةٍ، من بعدما قَتَلُوا الكلام.
قصيدة أبي
يقول محمود درويش في رثاء والده:
غضَّ الطرف عن القمر وانحنى يحضن التراب، وصلّى للسماء بلا مطر. وهاني عن السفر، أشعل البرق أوديه، كان فيها أبي يربي الحجارة منذ قديم، ويخلق الأشجار. جلده يندف الندى، إذ تورق الشجرة، فبكى الأفق أغنية، وكان أوديس فارسًا. كان في البيت أرغفة، نبيذ وأغطية، وخيول وأحذية. وأبي قال مرةً حين صلّى على حجر: غضّ الطرف عن القمر، واحذر البحر والسفر.
يوم كان الإله يجلد عبده، قلت يا ناس نكف، وروى لي أبي وطأطأ زنده في حوار مع العذاب. كان أيوب يشكر خالق الدود والسحاب. خلق الجرح لي، لا لميت ولا صنم، فضح الجرح والألم، وأعني على الندم. مرّ في الأفق كوكبٌ نازلاً… نازلاً، وكان قميصي بين نار وبين ريح. وعيني تفكر برسوم على التراب، وأبي قال مرة: الذي ما له وطن ما له في الثرى ضريح. وهاني عن السفر.
قصيدة وقفت على قبر العزيز بن يوسف
يقول ابن الساعاتي:
وقفتُ على قبر العزيز بن يوسفٍ، وقوف الفتى الصادي على المنهل العذب، فلم أقضهِ حق السماحة والندى، ولا حق هاتيك البشاشة والقرب. سلامٌ على الدنيا الدنية بعده، فأحداثها تُصمي ولذاتها تُصبي. ولو كنتُ ذا قلبٍ لصدني الأسى عن القلب، لكني بقيتُ بلا قلب.
وسكن ندبي بعد طول جماحه، على الجائد الوهاب والفارس الندب، يقيني بأن الموت للخلق غايةٌ، وأن المنايا مورد العجم والعرب.
قصيدة مَن ظَنَّ بَعدَكَ أَن يَقولَ رِثاءَ
يقول أحمد شوقي:
مَن ظنَّ بعدكَ أن يقول رثاءً، فليَرثِ مِن هذا الورى مَن شاء. فجَعَل المكارم فاجعٌ في ربِّها، والمجدَ في بانيه والعلياء. ونعى النُعاةُ إلى المروءة كنزها، وإلى الفضائل نجمها الوضاء. أأبا محمدٍ، اتّئد يا ذا النوى، وارفُق بآلك، وارحم الأبناء.
واستبقي عزّهم بطهراء التي كانوا النجوم بها وكنتَ سماء. أدجى بها ليل الخطوب، وطالما مُلئت منازلها سنىً وسناء. وإذا سليمان استقلّ محلةً، كانت بساطًا للندى ورجاء. فانظر من الأعواد حولك، هل ترى مِن بعد طبّك للعفاة دواء؟
سارت جنازة كل فضلٍ في الورا، لما ركبتَ الآلة الحَدباء. ويتيمَ الأيتام أول مرةٍ، ورمى الزمان بصرفه الفقراء. ولقد عهدتك لا تضيّع راجيًا، واليوم ضاع الكل فيكَ رجاء.
وعلمتُ أنك من يودّ ومن يفي، فقفِ الغداة لو استطعتَ وفاء. وذكرتُ سعيكَ لي مريضًا فانيًا، فجعلتُ سعيي بالرثاء جزاء. والمرء يُذكَر بالجمال بعده، فارفع لذِكرك بالجمل بناء.
واعلم بأنك سوف تُذكَرُ مرةً، فيقال أحسن أو يُقال أساء. أبنيهي كونوا للعِدى من بعده كيدًا، وكونوا للولي عزاء. وتجلدوا للخطب مثل ثباته، أيام يُدافع الأرزاء. والله ما مات الوزير وكنتم فوق التراب أعزّةً أحياء.