قصيدة غير منتهية حول مفهوم العشق
يؤكد نزار قباني:
عندما قررت الكتابة عن تجربتي في الحب، داهمني التفكير في مدى جدوى اعترافاتي. لقد كتب الناس عن الحب كثيراً، ورسموا مشاعره على جدران الكهوف، وفي الأواني الفخارية، وقديمًا نقشوه على عاج الفيل في الهند، وعلى الورق البردي في مصر، وفي الأرز في الصين. قدموا له القرابين، وقدموه كقسم. وعندما شَرعتُ في نشر أفكاري عن العشق، شعرت بالتردد كثيرًا. فأنا لست قسيساً، ولم أمارس تعليم الطلاب، ولا أؤمن بأن الورد مضطرٌ لشرح عبيره للناس. ماذا يمكنني أن أكتب، سيدتي؟ إنه إحساسي وحدي، ويمسني أنا فقط. إنه السيف الذي يخترقني، وأزداد مع الموت حضورًا.
عندما سافرت عبر بحرك، لم أستعن بخريطة البحر، ولم أمتلك زورقًا مطاطيًا أو طوق نجاة. بل اقتربت إلى نارك كالبوذي، واخترت المصير. لقد كان لي شغف بأن أكتب بالطبشور عنواني على الشمس، وأبني فوق نهديك الجسور. عندما أحببتك، لاحظت أن الكرز في بستاننا أصبح شعلة، وأن الأسماك الهاربة من صنارة الأطفال تتدفق بالملايين لتزرع بذورها على شواطئنا، وأن السرو قد زاد ارتفاعًا، والعمر قد أصبح أوسع. وبأن الله عاد إلى الأرض، وأخيرا، عندما أحببتك، بدأت أرى الصيف يتكرر عشر مرات في السنة.
أحببتك، وكان له تأثير على كيف كانت أصوات الأطفال بعد الرضى، ومذاق الخبز، وطريقة تساقط الثلوج، حتى مواء القطط السوداء في الشارع، وحسب كف الكف على أرصفة “الحمراء.” التوقيع على القهوة السوداء، وفي لحظات السهر في المساء، وكل حبة رمل إسرائيلية يجب أن تظل عالقة على أطرافنا، ولمسة النحاس بعد مغادرة الصيف أعطت الحياة طعماً أجمل.
وعندما حاولت أن أكتب عن حبي عانيت كثيرًا
إنني في أعماق البحر، ولا يعرف ضغط الماء سوى من ضاعوا في المحيطات لدهور. ماذا أستطيع أن أكتب عن حبك، سيدتي؟ كل ما تتذكره ذاكرتي هو أنني استيقظت من نومي صباحًا لأرى نفسي أميرًا.
قصيدة لعينيك ما يلقاه الفؤاد وما لقي
يقول المتنبي:
لِعَيَنَيْكِ ما يَلقى الفُؤادُ وَما لَقي
وَلِلحُبِّ ما لَم يَبقَ مِنّي وَما بَقي
وما كنتُ ممن يدخل العشق قلبه
ولكن من يبصر جفونك يعشق
الغرور مني أن حبك قاتلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعل
يهواك ما عشت القلب فإن أمت
يتبع صداي صداك في الأقبر
أنت النعيم لقلبي والعذاب له
فما أمرّك في قلبي وأحلاك
وما عجبني موت المحبين في الهوى
ولكن بقاء العاشقين عجيب
لقد دبّ الهوى لك في فؤادي
دبيب دم الحياة إلى عروقي
خليلي فيما عشتما هل رأيتما قتيلا
بكت من حب قاتله قبلي
لو كان قلبي معي ما اخترت غيركم ولا
رضيت سواكم في الهوى بدلاً
فيا ليت هذا الحب يعشق مرة
فيعلم ما يلقى المحب من الهجر
عيناك منزلتا القلوب فكلها
إما جريح أو مصاب المقتل
وإني لأهوى النوم في غير حينه
لعل لقاء في المنام يكون
ولولا الهوى ما ذل في الأرض عاشق
ولكن عزيز العاشقين ذليل.
قصيدة عذبة كطفولة
يقول أبو القاسم الشابي:
عذبة أنت كالطفولة كالأح
لام كاللحن كالصباح الجديد
كالسماوات الضاحكة كليلة قمراء
كالورد كابتسام الوليد
يا لها من وداع وجمال
وشبابٍ منعّمٍ أملود
يا لها من طهارة تزيد التقدير
سَ في مهجة الشقي العنيد
يا لها رقّة تكاد يرف الورد
منها في الصخرة الجلمود
أي شيء تعودين الوزان؟
تتجلى بين الورى من جديد
لتعيد الشباب والفرح المعس
وللعالم التعيس العميد
أم ملاك الفردوس جاء إلى الأرض
ليحيي روح السلام العتيد
أنت ما أنت، أنت رسم جميل
عبقري من فن هذا الوجود
فيك ما فيه من غموض وعمق
وجمال مقدس معبود
أنت ما أنت، أنت فجر من السحر
تجلّى لقلبي المعمود
فأراه الحياة في مورق الحسن
وجلّى له خفايا الخلود
أنت روح الربيع تختال في الدنيا
فتهتز رائعات الورود
وتهب الحياة سكرى من العطر
ويدوي الوجود بالتغريد
كلما أبصرتك عيناي تمشين
بخطو موّقع كالنشيد
خفق القلب للحياة ورِف الزه
ر في حقل عمري المجرود
وانتشت روحي الكئيبة بالحب
وغنت كالبلبل الغريد.
وقال أيضًا:
عيناك منزلتا القلوب فكلها
إما جريح أو مصاب المقتل
وإني لأهوى النوم في غير حينه
لعل لقاء في المنام يكون
ولولا الهوى ما ذل في الأرض عاشق
ولكن عزيز العاشقين ذليل
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها
ففي وجه من تهوى جميع المحاسن
لا تحارب بناظريك فؤادي
فضعيفان يغلبان قويًا
إذا ما رأت عيني جمالك مقبلاً
وحقك يا روحي سكرت بلا شرب
كتب الدمع بخدي عهده لهوى
والشوق يملي ما كتب
أحبك حبين حب الهوى
حباً لأنك أهل لذاك
رأيت بها بدرا على الأرض ماشياً
ولم أر بدرا قط يمشي على الأرض.
قصيدة كأنما طرقت ليلى معاهدة
يقول أبو وجزة السعدي:
كَأَنَّما طَرَقَت ليلى مُعَهَّدةً
مِنَ الرِياضِ وَلاها عارِضٌ تَرِعُ
طافَت بِها ذاتُ أَلوانٍ مُشَبَّهة
ذَريعَة الجِنِّ لا تُعطي وَلا تَدَعُ
وَالخائِعُ الجَونُ آتٍ عَني شَمائِلِهِم
وَنائِعُ النَعفِ عَني أَيمانِهِم يَفَعُ
فَما أَرَدنا بِها من خُلَّةٍ بَدَلاً
وَلا بِها رَقَصَ الواشينَ نَستَمِعُ
سَلَّ الهَوى وَلباناتُ الفُؤادِ بِها
وَالقَلبُ شَكي الهَوى مِن حُبِّها شَكِعُ
كَأَنَّهُم يَومَ ذي الغرَّاء حينَ غَدَت
نُكباً جِمالُهُمُ لِلبَينِ فَاندَفعوا
لَم يَصبِحِ القَومُ جيراناً فَكُلُّ نَوى
بالناسِ لا صَدعَ فيها سَوفَ تَنصدِعُ.
قصيدة قِف بالدّيار واصحَ إلى بيدائها
يقول عنترة بن شداد:
قِف بِالدِيارِ وَصِح إِلى بَيداها
فَعَسى الدِيارُ تُجيبُ مَن ناداها
دارٌ يَفوحُ المِسكُ مِن عَرَصاتِها
والعودُ وَالنَدُّ الذَكِيُّ جَناها
دارٌ لعَبلةَ شَطَّ عَنكَ مَزارُه
وَنَأَت لَعَمري ما أَراكَ تَراها
ما بالُ عَينِكَ لا تَمَلُّ مِنَ البُكا
رَمَدٌ بِعَينِكَ أَم جَفاكَ كَراها
يا صاحِبي قِف بالمَطايا ساعَةً
في دارِ عَبلةَ سائِلاً مَغناها
أَم كَيفَ تَسأَلُ دِمنَةً عادِيَّةً
سَفَتِ الجُنوبِ دِمانَها وَثَراها
يا عَبلَ قَد هامَ الفُؤادُ بِذِكرِكُم
وَأَرى دُيوني ما يَحُلُّ قَضاها
يا عَبلَ إِن تَبكي عَلَيَّ بِحُرقَةٍ
فَلَطالَما بَكَتِ الرِجالُ نِساها
يا عَبلَ إِنّي في الكَريهَةِ ضَيغَمٌ
شَرِسٌ إِذا ما الطَعنُ شَقَّ جِباها
وَدَنَت كِباشٌ مِن كِباشٍ تَصطَلي
نارَ الكَريهَةِ أَو تَخوضُ لَظاها
وَدَنا الشُجاعُ مِنَ الشُجاعِ وَأُشرِعَت
سُمرُ الرِماحِ عَلى اِختِلافِ قَناها
فَهُناكَ أَطعَنُ في الوَغى فُرسانَها
طَعناً يَشُقُّ قُلوبَها وَكُلاها
وَسَلي الفَوارِسَ يُخبِروكِ بِهِمَّتي
وَمَواقِفي في الحَربِ حينَ أَطاها
وَأَزيدُها مِن نارِ حَربي شُعلَةً
وَأُثيرُها حَتّى تَدورَ رَحاها
وَأَكُرُّ فيهِم في لَهيبِ شُعاعِها
وَأَكونُ أَوَّلَ واقِدٍ بِصَلاها
وَأَكونُ أَوَّلَ ضارِبٍ بِمُهَنَّدٍ
يَفري الجَماجِمَ لا يُريدُ سِواها
وَأَكونُ أَوَّلَ فارِسٍ يَغشى الوَغى
فَأَقودُ أَوَّلَ فارِسٍ يَغشاها
وَالخَيلُ تَعلَمُ وَالفَوارِسُ أَنَّني
شَيخُ الحُروبِ وَكَهلُها وَفَتاها
يا عَبلَ كَم مِن فارِسٍ خَلَّيتَهُ
في وَسطِ رابِيَةٍ يَعُدُّ حَصاها
يا عَبلَ كَم مِن حُرَّةٍ خَلَّيتُها
تَبكي وَتَنعى بَعلَها وَأَخاها
يا عَبلَ كَم مِن مُهرَةٍ غادَرتُها
مِن بَعدِ صاحِبِها تَجُرُّ خُطاها
يا عَبلَ لَو أَنّي لَقيتُ كَتيبَةً
سَبعينَ أَلفاً ما رَهِبتُ لِقاها
وَأَنا المَنِيَّةُ وَاِبنُ كُلِّ مَنِيَّةٍ
وَسَوادُ جِلدي ثَوبُها وَرِداها.
قصيدة لعزة من أيام ذي الغصن هاجني
يقول كثير عزة:
لِعَزَّةَ مِن أَيّامِ ذي الغُصنِ هاجَني
بَضاحي قَرارِ الرَوضَتَينِ رُسومُ
فَروضَةُ أَلجامٍ تَهيجُ لِيَ البُكا
وَرَوضاتُ شوطى عَهدُهُنَّ قَديمُ
هِيَ الدارُ وَحشاً غَيرَ أَن قَد يَحِلُّها
وَيَغنى بِها شَخصٌ عَلَيَّ كَريمُ
فَما بِرِباعِ الدارِ أَن كُنتُ عالِماً
وَلا بِمَحَلِّ الغانِياتِ أَهيمُ
سَأَلتُ حَكيماً أَينَ صارَت بِها النَوى
فَخَبَّرَني ما لا أُحِبُّ حَكيمُ
أَجَدّوا فَأَمّا آلُ عَزَّةَ غَدوَةً
فَبانوا وَأَمّا واسِطٌ فَمُقيمُ
فمضى لِلنَوى لا بارَكَ اللَهُ في النَوى
وَعَهدُ النَوى عِندَ المُحِبِّ ذَميمُ
لَعَمري لَئِن كانَ الفُؤادُ مِنَ النَوى
بَغى سَقَماً إِنّي إِذَن لَسَقيمُ
فَإِمّا تَرَيني اليَومَ أُبدي جَلادَةً
فَإِنّي لَعَمري تحتَ ذاكَ كَليمُ
وَما ظَعَنَت طَوعاً وَلَكِن أَزالَها
زَمانٌ نَبا بِالصالِحينَ مَشومُ
فَواحَزنا لَمّا تَفَرَّقَ واسِطٌ
وَأَهلُ الَّتي أَهذي بِها وَأَحومُ
وَقالَ لِيَ البَلاغُ وَيحَكَ إِنَّها
بِغَيرِكَ حَقّاً يا كَثيرُ تَهيمُ
أَتَشخَصُ والشخص الَّذي أَنتَ عادِلُ
بِهِ الخُلدَ بِينَ العائِداتِ سَقيمُ
يُذَكِّرُنيها كُلُّ ريحٍ مَريضَةٍ
لَها بِالتِلاعِ القاوِياتِ نَسيمُ
تَمُرُّ السُنونَ الماضِياتُ وَلا أَرى
بِصَحنِ الشَبا أَطلالَهُنَّ تَريمُ
وَلَستُ اِبنَةَ الضَمرِيِّ مِنكَ بِناقِمٍ
ذُنوبَ العِدى إِنّي إِذَن لَظَلومُ
وَإِنّي لَذو وَجدٍ لَئِن عادَ وَصلُها
وَإِنّي عَلى رَبّي إِذَن لَكَريمُ
إِذا بَرَقَت نَحوَ البُوَيبِ سَحابَةٌ
لِعَينَيكَ مِنها لا تَجِفُّ سُجومُ
وَلَستُ بِراءٍ نَحوَ مِصرَ سَحابَةً
وَإِن بَعُدَت إِلّا قَعَدتُ أَشيمُ
فَقَد يوجَدُ النَكسُ الدَنِيُّ عَنِ الهَوى
عَزوفاً وَيَصبو المَرءُ وَهوَ كَريمُ
وَقالَ خَليلي ما لَها إِذ لَقيتَها
غَداةَ الشَبا فيها عَلَيكَ وُجومُ
فَقُلتُ لَهُ إِنَّ المَوَدَّةَ بَينَنا
عَلى غَيرِ فحشٍ وَالصَفاءُ قَديمُ
وَإِنّي وَإِن أَعرَضتُ عَنها تَجَلُّداً
عَلى العَهدِ فيما بَينَنا لَمُقيمُ
وَإِنَّ زَماناً فَرَّقَ الدَهرَ بَينَنا
وَبَينَكُم في صَرفِهِ لَمَشومُ
أَفي الدَينِ هَذا إِنَّ قَلبَك سالِمٌ
صَحيحٌ وَقَلبي مِن هَواكِ سَقيمُ
وَإِنَّ بِجَوفي مِنكِ داءٌ مُخامِراً
وَجَوفُكِ مِمّا بي عَلَيك سَليمُ
لَعَمرُكِ ما أَنصَفتِني في مَوَدَّتي
وَلَكِنَّني يا عَزُّ عَنكِ حَليمُ
عَلَيَّ دِماءُ البُدنِ إِن كانَ حُبُّها
عَلى النَأيِ أَو طولَ الزَمانِ يَريمُ
وَأُقسِمُ ما اِستَبدَلتُ بَعدَكِ خُلَّةً
وَلا لَكِ عِندي في الفُؤادِ قَسيمُ.