مكان لقاء سيدنا موسى بالخضر
تحدثت المصادر التاريخية عن لقاء موسى -عليه السلام- بالخضر عند مجمع البحرين. وقد أشار الشيخ سيد قطب -رحمه الله- في كتابه “في ظلال القرآن” إلى أن البحرين هما: بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وبحر القلزم (البحر الأحمر). يرمز “المجمع” إلى المكان الذي يلتقي فيه هذان البحران، وقد تشمل هذه المواقع بحيرات المرة وبحيرة التمساح، أو يشير إلى التقاء خليج العقبة بخليج السويس في البحر الأحمر. ووفقًا لرأي السيوطي في كتابه “الدر المنثور”، اعتقد قتادة أن مجمع البحرين هو بحر فارس والروم، فيما أشار الربيع بن أنس إلى نفس المعنى. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره أن هناك تفاسير أخرى تشير إلى أن مجمع البحرين قد يكون في إفريقيا أو مدينة طنجة، في حين اعتبر السدي أن الكر والرس هما مواقع التقاء البحرين، اعتمادًا على ما جاء في كتب التفسير الأخرى.
قام موسى -عليه السلام- بالتجهيز لرحلة بحث واستكشاف، حيث اصطحب معه حوتًا للطهي عند الحاجة. ولكن خلال سفرهم، نسوا هذا الحوت حتى بلوغهما مجمع البحرين، حيث ورد في القرآن الكريم: (فَلَمّا بَلَغا مَجمَعَ بَينِهِما نَسِيا حوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي البَحرِ سَرَبًا). وقد أشار المفسر محمد أبو زهرة إلى أن مجمع البحرين هو الموقع الذي غادر منه موسى -عليه السلام- مصر، وهو منطقة شملت سيناء والأردن. فقد حُدد لموسى -عليه السلام- المكان الذي سيجتمع فيه بالرجل الصالح، وطُرح رأي بأن ذلك ربما كان عند التقاء خليج العقبة بخليج السويس، لأن موسى كان في سيناء.
بينما يرى البعض، مثل محمد بن كعب، أن المجمع هو عند طنجة حيث يلتقي المحيط مع البحر المتوسط، بينما احتمل آخرون أن يكون بحر الأندلس أو البحر الأزرق. وقد ذكر ابن عطية أن المجمع هو ذراع يمتد من المحيط إلى الجنوب في أرض فارس. وشدد الشيخ سيد قطب -رحمه الله- على أن القرآن الكريم لم يحدد مكان وقوع القصة بدقة، بل ترك الأمر مجملًا، وكما أكد الفخر الرازي -رحمه الله- أن المجمع هو المكان الذي وعد الله فيه موسى بلقاء الخضر. مما يعني أن معرفة المكان ليست ذات أهمية كبيرة في سياق القصة.
أسباب لقاء موسى بالخضر
أوضح ابن عباس أن سبب اجتماع موسى بالخضر يعود إلى خطبة ألقاها موسى -عليه السلام- في الناس بعد أن أظهره الله -تعالى- وقومه على فرعون. خلال هذه الخطبة، سرد موسى نعم الله عليه كونه كليم الله ومصطفاه، حينما سأله رجل: “هل من أعلم منه على الأرض؟”، فرد موسى قائلًا: “لا”، دون أن يُضيف “إلا الله أعلم”.
تعددت الروايات حول أسباب لقاء موسى بالخضر، لكن أكثرها دقة وردت في رواية البخاري، حيث أورد عن أبيّ بن كعب -رضي الله عنه-: (أنَّه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إنَّ مُوسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل: أيّ الناس أعلم؟ فأجاب: أنا، فعاب الله عليه لأنه لم ينسب المعرفة إلى الله، فأوحى الله إليه بأن هناك عبدًا في مجمع البحرين أعلم منك). تهدف القصة إلى تعليم موسى درسًا حول ضرورة العودة إلى الله في المعرفة، وكيف أن حكمة الله تجلت في تلك الأحداث التي جمعت بينه وبين الخضر.
شدد الله -تعالى- لموسى على علامة معينة ليعرف بها مكان الرجل الصالح، وهي فقدان الحوت. وقد رافق موسى في رحلته غلامًا، وعندما استراح موسى وطلب من غلامه إحضار الحوت، ذكر له أنه نسي الحوت بالقرب من صخرة، حيث اتخذ الحوت طريقه في البحر بطريقة غريبة، مما جعل موسى يدرك أنه قريب من مراده. وعند عودتهما، التقيا بالخضر، الذي سلّم عليه وأعلمه أن كلاً منهما لديه علم خاص به آتاه الله -تعالى-.
- خاطب الخضر موسى -عليه السلام- إن لديه علمًا من علم الله لا يعلمه موسى، كما قال: (يا موسى إنني على علم من علم الله علمتني إياه، أما أنت فعلى علم علّمك إياه الله لم أعلمه).
- بينما كان هناك عصفور ينقر في البحر، قال الخضر: (ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر).
- أظهرت الآيات أن الخضر كان على علم لم يعلمه موسى، إذ قال -تعالى-: (فوجدا عبدًا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علمًا). لذا كان موسى -عليه السلام- ينكر العديد من أفعال الخضر، فقال له الخضر: (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا).
قصة موسى مع الخضر
تعتبر قصة موسى والخضر -عليهما السلام- من أهم القصص في سورة الكهف، حيث توضح سعة علم الله واختياره لبعض خلقه بمعلومات عن الأحداث الخفية. كما تظهر قيمة طلب العلم وتواضع الأنبياء. يمكن تقسيم هذه القصة إلى أجزاء رئيسية بالشكل التالي:
رحلة البحث عن الرجل الصالح
بدأت رحلة موسى -عليه السلام- برفقة غلامه في سعي حثيث للوصول إلى مجمع البحرين. وقال له: (لا أَبرَحُ حَتّى أَبلغَ مَجمَعَ البَحرَين)، في إشارة إلى عدم توقفه عن السير حتى يصل إلى ما أراده الله منه. وهذا يعلمنا أهمية الأخذ بصحبة صالحة في الأسفار، حيث كان غلامه يسانده ويشاركه في الصعوبات. وقد قيل: كلما كانت الأهداف سامية، جاءت معها وسائل عظيمة لتحقيقها. وعندما وصلا إلى المجمع، نسيا الحوت، كما ورد في قوله تعالى: (فَلَمّا بَلَغا مَجمَعَ بَينِهِما نَسِيا حوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبيلَهُ فِي البَحرِ سَرَبًا).
ظهر في السنة النبوية أن موسى قد أمر بأن يأخذ حوتًا في رحلة، وقد وصف بأنه حوت مالح، مما يشير إلى أنه كان لطهيه. وقد قامت معجزة حينما اتخذ الحوت طريقًا في البحر كما لو كان سربًا، بما أنه فصل الماء عنه. وعندما استيقظ موسى -عليه السلام- كان قد فات الأوان، وأدرك غلامه أنه قد نسي الحوت واقتنعا بأنهما اقتربا من مأمنهم، حيث قال الغلام: (أَرَأَيتَ إِذ أَوَينا إلى الصَّخْرَةِ فَإِنّي نَسِيتُ الحوتَ).
رحلة الأسرار مع العبد الصالح
يُعتبر الخضر رمز العبودية التي تجسد أعلى مراتب العبادة والإخلاص لله. وقد توضح الآيات أن الخضر قد أعطي علمًا خاصًا من الله، وأتاح له أن يعبر عن مشيئة الله من خلال التجارب التي خضع لها موسى. خلال مغامرتهم، ركبوا سفينة، حيث خرق الخضر جزءًا منها، مما أثار استغراب موسى. وعندما لاحظ موسى هذا الأمر، عاتبه الخضر مستنكرًا استغرابه. ثم وقع حادثة قتل غلام، وهو ما زاد من استغراب وصعوبات موسى -عليه السلام- ولكنه أعاد تأكيد وعده بعدم السؤال بعد ذلك.
أسرار العلم المكنون وكشف الأمور الخفية
أوضحت الآيات أسباب تصرفات الخضر غير المتوقعة، فقد تم خرق السفينة لتفادي الزوال من ملك ظالم، أما قتل الغلام فكان بسبب علم الخضر بأن هذا الغلام سيكون طاغيًا في المستقبل. وفيما يتعلق بالجدار، كان لسبب وجود كنز يتيم تحت الجدار المائل. هذه الأحداث أربطت بين أفعال الخضر وحكمة الله -ترفع ذكره- التي لا يفهمها إلا من أوتي علمًا.
الدروس المستفادة من قصة موسى والخضر
من قصة موسى -عليه السلام- والخضر، نستفيد العديد من الدروس القيمة، منها:
- الأهمية الحيوية للصحبة الصالحة وضرورة وجود أصدقاء مخلصين.
- تحقيق العلم والحرص عليه كسبيل لحياة القلوب.
- الدور المحوري للمعلّمين وإعادة تكريس طلابهم هما قاعدة أساسية في العملية التعليمية.
- ضرورة اختيار أفضل وأكثر قدرة فيما يخص تلاميذهم كحملة الرسالة المستقبلية.